هل هي لعنة طاردت روسيا في أوكرانيا؟

04:23 صباحا
قراءة 3 دقائق
عشرة أيام كانت كافية للاطاحة باتوكوفيتش في أوكرانيا، في استعادة للثورات البرتقالية المدنية في شرق أوروبا قبل نحو ربع قرن . واللافت في الأمر أن أوكرانيا تجدد بهذا انفصالها عن روسيا . في العام 1990 انفصلت عن الاتحاد السوفييتي الاشتراكي، ولكن مع بقاء ارتباطات لها مع موسكو ضمن مجموعة الدول المستقله في ما يشبه الكومنولث الروسي . وها هي كييف تجدد انفصالها عن الاتحاد الروسي .
لا شك أنه تطور مثير . فالحدث وقع أمام أنظار الجيران الروس في الشرق . المعارضون المحتجون طالبوا جهاراً بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، والفكاك من الارتباط بموسكو الذي كان يمثله النظام السابق . ونجحوا في حملتهم الجماهيرية ما اضطر الرئيس المعزول إلى الهرب قائلاً إنه ما زال الرئيس الشرعي وكل ما في الأمر أنه نجا بحياته .
الخسارة الروسية المدوية لنظام جار وحليف لموسكو على مدى عقود يكشف عن بقايا عقلية إمبراطورية تستهين بخيارات الشعوب بما في ذلك الشعب الأقرب: الأوكراني، وإذ يتحدث مسؤولون روس من بينهم الرئيس بوتين عن روابط ثقافية وحضارية وتاريخية تربط روسيا بأوكرانيا، فإن المغزى السياسي لذلك يتلخص بأن من واجب الأوكرانيين (46 مليون نسمة) استمرار تبعيتهم لموسكو إلى الأبد! هناك حاجة إلى احترام مقتضيات التعددية العرقية ومن ضمنها وجود ما يزيد على سبعة ملايين روسي على الأراضي الأوكرانية غالبيتهم في شبه جزيرة القرم التي تتبع أوكرانيا لكنها تتمتع بحكم ذاتي، ولهذا اختارت موسكو استعراض عضلاتها العسكرية يومي الخميس والجمعة الماضيين 27 و28 فبراير/ شباط في مطار تلك المنطقة . وهناك حاجة بالطبع إلى إقامة علاقات حسنة ووثيقة بين كييف وموسكو فجيران الأرض يبقون جيراناً إلى الأبد .
ما يثير التأمل أن ما تحدث به بوتين عن روابط عميقة مع أوكرانيا يقيد موسكو عملياً، ولا يسهل دوام تبعية كييف لها . فالمرتبطون عميقاً مع موسكو دينياً على صعيد الثقافة الأرثوذكسية هم من يرغبون باستقلال بلادهم عن موسكو . والأمر في كييف يختلف عن غروزني التي شنت عليها موسكو قبل عشرين عاماً الحرب ودمرت أجزاء كبيرة من العاصمة تحت شعار مكافحة الإرهاب الإسلامي، وفي زمن كانت تزدهر فيه الدعوات الغربية المتطرفة لصراع الحضارات (وهو التعبير الملطف للصراع بين أتباع الديانات) .
ليس هناك إرهاب في كييف ولا أيد أجنبية . هناك نزوع شعبي عام إلى الاستقلال، تتخلله بعض الانقسامات في الرأي حول مستقبل البلد ونظامه السياسي . وهو ما تتكفل بحسمه الآليات الديمقراطية بعيداً عن التخويف والمافيات والمال السياسي، وهو بعض ما يسم الديمقراطية الروسية التي تبحث عن وسيلة للانقضاض على البلد ذي الروابط العميقة مع روسيا .
واقع الحال أن هذه الروابط تجمع أوكرانيا بشطر أكبر من العالم: مع أوروبا المسيحية ومع الغرب عموماً . وسوف يكون هناك هامش محدود أمام المناورات السياسية والعسكرية لروسيا تجاه هذا البلد . وإن كانت موسكو سوف تستغل الوضع الخاص بشبه جزيرة القرم من حيث وجود كثافة سكانية روسية فيها من أجل تكبيل النظام الجديد في كييف وزعزعة أمنه راهناً ومستقبلاً .
كما ستحاول القيادة الروسية استغلال النزعة "الحمائمية" لدى إدارة أوباما والتي تجلت أكثر ما تجلت خلال الأزمة السورية من أجل تنظيم ضغوط عسكرية وسياسية على كييف كلما تسنى ذلك .
ليس من قبيل المبالغة القول إن انفجار أزمة أوكرانيا في وجه القيادة الروسية هو ضرب من ضروب مكر التاريخ .
من المنتظر أن يشهد الملف الأوكراني تطورات متسارعة أوروبياً وغربياً وأمريكياً قريباً، لكن التبعية لموسكو كما لأي قطب دولي آخر تشهد سقوطاً مدوياً، يرتفع فيه صوت الشعوب التائقة للحرية .

محمود الريماوي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"