الصراع على الجنوب بين القوى العظمى

01:53 صباحا
قراءة 3 دقائق
عبد الإله بلقزيز

اصطدمت فكرة دول عدم الانحياز ومنظومتها الجنوبية المتكونة في نصف الخمسينات الثاني، بالاستقطاب الدولي بين العظميين ومعسكريهما فلم يقيض لها بالتالي أن تشق طريقاً ثالثة مستقلة، ولا أن تشكل قطباً جديداً يزاحم القطبين السائدين في القوة والنفوذ.
ومع أن أدوار هذه الفكرة والمنظومة بدت نشطة في مراحل صعودها الأولى وفعالة، وأحدثت سياساتها تغييرات ملموسة في الواقع العالمي، خاصة في عالم الجنوب، إلا أن منتهى ما استطاعته هو أن تمثل قوة نقض وردع، من مواقع دفاعية، بينما استمرت المبادرة السياسية في الشأن الدولي بأيدي اللاعبين الكبار من المعسكرين.
يَرد واقع انحصار منظومة عدم الانحياز في الحدود المتواضعة إلى قوة القطبين والمعسكرين في النظام الدولي، خلال حقبة الحرب الباردة. وهي قوة ما كان يمكن أن تضارعها قوة دول الجنوب حديثة الميلاد، كمنظومة، وحديثة العهد بالاستقلال السياسي. ولقد كان يزيد من هشاشة قوتها، ضعف موارد أكثرها وما كان يعترض عملية البناء السياسي والتنموي فيها من مشكلات نَجَم معظمها عن مواريث الحقبة الكولونيالية، ولكن الانحصار ذاك يرد أيضا إلى هلامية منظومة عدم الانحياز، وعدم تجانس تركيبتها من الدول، وتعارض سياساتها وخياراتها في كافة المجالات. وهذه حقيقة لم يكن ليُغيّر منها أن الدول القائدة للمنظومة كانت على قدر من التناغم بينها في سياساتها الدولية.
وما توقفت مشكلة منظومة عدم الانحياز عند إخفاق هذه الصيرورة في أن تكون قطباً ثالثاً في النظام الدولي فحسب؛ بل تعدت ذلك إلى حيث أصبحت موضوعاً لصراع بين القطبين عليها! والحق أن شطراً كبيراً من الصراع بين معسكري الغرب والشرق انصرف إلى التعبير عن نفسه في شكل صراع على الجنوب؛ صراع ظل كل طرف فيه يهدف إلى تعظيم قوته الدولية، من طريق كسب دول منظومة الجنوب كلاً أو بعضاً إلى صفه. وما كان الصراع عسكرياً، دائماً، بحيث تغيا الإخضاع؛ بل كان في المعظم من فصوله سياسياً واقتصادياً وتجارياً، لكنه مع الزمن انتقل من سياسة كسب الجانب، من طريق سلوك سبيل المعونات الاقتصادية وبيع الأسلحة، إلى المعاهدات والأحلاف الاستراتيجية؛ أي إلى حيث أدخل دول الجنوب مجدداً، في لعبة الاستقطاب الدولي بين «العظميين».
قوى دولية ثلاث خاضت غمار الصراع على الجنوب: الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي، خلال الحرب الباردة، ثم الصين الشعبية (مع السوفييت في الحرب الباردة ومع الأمريكيين بعد الحرب الباردة) من حيث هي أقوى قوة في الجنوب وتالياً، أقوى القوى في عالم اليوم. ولم تكن حسابات القوى الثلاث هذه واحدة: فقد فَهم الاتحاد السوفييتي من سياسة الحياد الإيجابي (الجنوبية) استعداداً لمواجهة الهيمنة الأمريكية والغربية على العالم ومنه عالم الجنوب ولملاقاة السياسة السوفييتية عند نقطة ما في هذا المسعى المشترك.
وشجع على مثل هذا الاعتقاد لدى موسكو أن معظم قيادات دول الجنوب، قيادات لحركة التحرر الوطني فيها. وهذا ما يفسر محالفتها إياها، ونشاط أجهزتها الأيديولوجية في التنظير لما سمته برنامج «التطور اللارأسمالي» الذي أوعزت لحلفائها من الأحزاب الشيوعية في الجنوب بتأييده والتحالف مع النخب الوطنية الحاكمة.
أما الولايات المتحدة الأمريكية وحليفاتها الغربيات، ففهمت من عدم الانحياز عدم ممالأة الاتحاد السوفييتي والمعسكر «الاشتراكي». أما صلتها بالنظام الرأسمالي فيضمنها استمرار النظام الرأسمالي سائداً ببنى تلك البلدان، ممسكاً بتطورها في اتجاه الربط العضوي له بشبكة الاقتصاد الرأسمالي الدولي.
ومع أن الصين الشعبية خاضت صراعاً أيديولوجياً مريراً مع السوفييت على الجنوب، منذ انهيار علاقاتها بالاتحاد السوفييتي عام 1964، إلا أنها سلكت مسلكاً مختلفاً بعد زوال الحرب الباردة، لكسب منظومة الجنوب، يختلف عما سلكته قِبلاً، وعما سلكه السوفييت والأمريكيون. لم تتوسل في المسلك هذا، سياسة الهيمنة الأيديولوجية، أو الضغط العسكري والسياسي والاقتصادي والتجاري والمالي؛ بل توسلت سياسات التعاون والمساعدات والاستثمارات؛ أي اختارت مخاطبة المصالح الوطنية لدول الجنوب، وبالتالي إشعار هذه الدول بفوائد علاقاتها بالصين.
ولقد أحرزت بذلك نجاحات هائلة في قارات العالم الثالث، خاصة في آسيا وإفريقيا. وهي تخطو خطوة جديدة نحو صراع مع أمريكا على أوروبا نفسها.
في كافة الأحوال، خسرت منظومة دول الجنوب كثيراً، من تجربة الصراع عليها بين القوى العظمى؛ ليس فقط لأن ذلك منعها من أن تفرض نفسها قوة عالمية جديدة في النظام الدولي، وإنما لأن ذلك حال دونها وحِفظ استقلالها وسيادتها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"