شروط نجاح مهمة الإبراهيمي

04:04 صباحا
قراءة 4 دقائق

الأخضر الإبراهيمي ليس واثقاً بنجاح مهمته في سوريا، التي كلف بها رسمياً الجمعة 17 أغسطس/ آب، هنالك احتمال كبير للغاية أن أفشل، ولكن بعض الأحيان نكون محظوظين، ونتمكن من تحقيق اختراق ما . يعتمد الدبلوماسي الجزائري المحنّك على الحظ وحده، كما في تصريحه لهيئة الإذاعة البريطانية، ومع ذلك يذهب إلى هذه المهمة غير الواضحة كي يخلف عنان الفاشل . لقد تردد أنه طلب توافقاً من مجلس الأمن والخمسة الدائمين، لكن ذلك مستحيل حتى تاريخه، فموسكو ترفض عملياً أي دور خارجي لإنهاء الأزمة، وتطلب من الفرقاء أن يتحاوروا، وهي وصفة لإدامة الأزمة لا إنهائها، ذلك أن انتفاء بيئة صالحة لإطلاق حوار عتيد، يعني عملياً إغلاق الباب أمامه، والاحتكام فقط إلى التنازع المسلح . والصين تتخذ موقفاً مشابهاً، لكنها لا تنغمس في التفاصيل على الطريقة الروسية جرياً على نهج التباعد الذي تتبعه مع الأزمات الإقليمية .

يبدو أن حديث الإبراهيمي عن توافق دولي هو مجرد مادة للتداول الإعلامي . لقد أبدى تردداً في قبول المهمة لإدراكه مدى الصعوبات التي تقف في سبيله، إلا أن الاعتبارات المهنية للرجل غلبت عليه، وهو الذي عمل سابقاً في أفغانستان والعراق، وكذلك في لبنان بين عامي 1989 و1992 . وعمله الأخير جعله على معرفة بسوريا، نظراً للعامل السوري في فصول الأزمات اللبنانية . غير أن الأزمة السورية تختلف عن الأزمات التي ضربت لبنان منذ العام ،1975 فالنظام اللبناني على طائفيته هو تعددي ومرن، ينتج الأزمات ويفتح أبواباً للحلول . أما في سوريا فالوضع مختلف، فالحياة السياسية متاحة فقط للنظام، والمعارضة لا يتم الرد عليها عبر المؤسسات النيابية والحكومية، أو الصحافة المتنوعة كما في لبنان، بل باستئصال وجودها . وتلك هي المشكلة التي منعت الحراك السلمي الإصلاحي في الأشهر الخمسة الأولى، من أن يثمر توافقاً وطنياً يؤدي إلى تجديد النظام السوري، وانتقاله من طابعه الأحادي إلى صيغة تشاركية .

وإذا كان المرء يثق بأن الإبراهيمي على معرفة بطبيعة النظام ومراكز القرار فيه، فلا شك أن معرفة قوى المعارضة هي مهمة على جانب من الصعوبة، فهذه القوى متعددة بما يجعل مراكز القرار متعددة، من المجلس الوطني إلى الجيش الحر، إلى مجلس قيادة الثورة، إلى هيئة التنسيق، إلى الكتائب التي يتناسل وجودها، وهي موزعة بين الداخل والخارج، وليس لطرف بعينه أن يتخذ قراراً ملزماً لغيره . وفي واقع الأمر، فإن احتدام الأزمة والأضرار المادية والخسائر البشرية المتراكمة يوماً بعد يوم، بل ساعة بعد ساعة، وموجات النزوح التي لا تتوقف إلى الدول المجاورة، لا تفسح في المجال إلا للتنازع المسلح الذي يستنزف البلد والشعب والنظام . هذه الدوامة المروّعة تسد الطريق أمام حلول دبلوماسية، وهي التي أغلقت الطريق أمام مهمة عنان وحتى أمام بعثات الصليب الأحمر .

على الجانب السياسي أعلنت دمشق غير مرة بالفم الملآن قبل بدء مهمة عنان وفي أثنائها، أنها ترفض أي حل خارجي، وكانت من قبل تتحدث عن رفض أي حل أجنبي، فجرى استبدال تعبير الأجنبي بخارجي، لرفض أي دور عربي أو إسلامي أو للأمم المتحدة . أما قوى المعارضة فباتت تطالب بتغيير النظام مع تصاعد الحرب التدميرية، من دون أن يتقدم طرف سياسي مثل روسيا أو الصين بحل جدي على قاعدة تشاركية حقيقية، يدفع المعارضة إلى تغيير موقفها .

مع ذلك فإن المبعوث العربي هذه المرة، والذي يملك مثل عنان تفويضاً عربياً أيضاً، قادر، إن شاء، على تلمس أبعاد المشكلة وجوانبها بأكثر من عنان الغريب عن الإقليم . ولا بد له كي تكون مهمته جديّة أن يبدأ من حيث انتهى سلفه، بوضع تصور لوقف إطلاق النار والكف عن الاستهداف الوحشي للمدنيين، وخروج كل عناصر مسلحة وقوى عسكرية من قلب المدن والبلدات، وتنظيم عمليات إغاثة دينامية وواسعة النطاق . ذلك هو الامتحان الذي يثق به السوريون الذين يدفعون ثمناً مروعاً للنزاع، والذين يسعهم حينئذٍ دعم مهمة الإبراهيمي، بما يوفر غطاء معنوياً ممتازاً لمهمة الرجل . وذلك هو المدخل إلى إنقاذ الشعب والدولة والوطن من متوالية التدمير الذاتي، والاستنزاف البشري وتمزيق الجيش وتقويض الاقتصاد، وتهيئة بيئة صالحة لحوار حقيقي .

يحتاج الإبراهيمي إلى تفويض وصلاحيات واضحة، وإلى تحديد مهلة زمنية ليست طويلة (شهر مثلاً) من أجل البدء بسد منافذ الأزمة، وتخليص السوريين من محنتهم المتطاولة، وأن يعتمد في بعض المراحل والمحطات على دبلوماسية علنية من أجل وضع الأطراف أمام مسؤولياتها، فالأزمة ليست صراعاً سياسياً على الحكم بين أطراف حزبية وبرلمانية ونقابية واجتماعية، إذ باتت نزاعاً عسكرياً مفتوحاً تستخدم فيه كل أنواع الأسلحة، كما هو الحال للأسف في الحروب بين الدول، ما يجعل وقف إطلاق النار الشرط الشارط للانتقال إلى حلول سياسية متفاوض عليها . حتى لو أدى ذلك إلى نشوء تعقيدات من نوع: من يضمن وقف إطلاق النار؟ ومن يراقب مفعوله؟ ومن يمنع تدفق الأسلحة؟ إلى آخره . ذلك أن استمرار الوضع على ما هو عليه يحمل تعقيدات ومخاطر أكبر، تتعلق بتنامي الاحتقان والضغائن الأهلية، وانتشار العسكرة، كما تتعلق بالسلامة المهددة لملايين السوريين وأمنهم اليومي، وقدرتهم على أن يعيشوا حياة طبيعية كسائر الشعوب . الإبراهيمي الذي تذوق محنة شعبه في التسعينات وما تلاها، وخَبِر محنة اللبنانيين ووقف على مأساة العراقيين، عليه أن يبدأ من إدراك المحنة الهائلة للسوريين وانسداد أبواب الأمل في وجوههم، إذا أراد أن يقف الحظ إلى جانبه .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"