السياسة الأوروبية وعولمة اللامبالاة

00:52 صباحا
قراءة 4 دقائق
الحسين الزاوي

حاول الاتحاد الأوروبي خلال السنوات الأخيرة أن يجعل من فكرة السياسية الخارجية الموحدة، فكرة قابلة للتجسيد على أرض الواقع، بالرغم من الاختلافات والتناقضات العديدة التي تميز أعضاءه، ولعل الموقف البريطاني كان، ولا يزال يمثل التحدي الأبرز بالنسبة للثنائي الألماني - الفرنسي الذي يسعى إلى أن يلعب هذا الكيان الوليد دوراً فاعلاً ومستقلاً عن التأثيرات الأمريكية في مجالات السياسة الخارجية والأمنية المشتركة.
بدأت السياسة الخارجية الأوروبية تعبّر عن نفسها بشكل تدريجي، وسمحت اتفاقية برشلونة سنة 2009 بوضع الخطوط العامة لهذه السياسة المشتركة من خلال استحداث منصب المسؤول الأعلى للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية للاتحاد، وإقامة هيئة المصلحة الأوروبية من أجل العمل الخارجي، إضافة إلى التنظيم المتعلق بالسلك الدبلوماسي الخاص بمجموع الدول الأوروبية البالغ عددها 28 دولة.
استطاع إذاً، الاتحاد الأوروبي خلال السنوات الأخيرة الماضية أن ينسِّق جهود أعضائه من أجل التأثير الإيجابي في الكثير من ملفات السياسة الدولية، من بينها الملف النووي الإيراني والصراع في القرن الإفريقي، وبخاصة ما تعلق بمحاربة جرائم القرصنة البحرية التي كانت تقوم بها بعض المجموعات المسلحة، ومسألة التغيرات المناخية التي تتسبب بارتفاع غير مسبوق لدرجة حرارة الأرض. وقام الاتحاد بإرسال الكثير من البعثات المشاركة في عمليات حفظ الأمن في العديد من مناطق النزاع في العالم، وساهم أيضا في سنة 2008 في إبرام الاتفاق الذي سمح بعودة السلم والاستقرار بين روسيا وجورجيا من خلال إرساله مراقبين ومساعدات إنسانية إلى منطقة الصراع، كما ساهمت دول الاتحاد في المحافظة على الأمن والاستقرار في كوسوفو، بالرغم من أنها لم تتمكن من الدفع بأطراف الصراع إلى غلق هذا الملف الشائك بشكل نهائي، بالنظر إلى الأهمية الرمزية والتاريخية التي تمثلها كوسوفو بالنسبة إلى صربيا. وتوصل الاتحاد الأوروبي بفضل الجهود المضنية التي بذلتها المستشارة الألمانية رفقة الرئيس الفرنسي، إلى إبرام اتفاق أولي للتهدئة بين الأطراف المتصارعة في شرقي أوكرانيا، بالرغم من الدور السلبي الذي لعبته كل من بريطانيا والولايات المتحدة من خلال إصرارهما على تأجيج الصراع ومحاولة عزل روسيا على المستويين الإقليمي والدولي.
وسعى الاتحاد الأوروبي في سياق متصل، إلى التأثير في ما سمي ب«ثورات الربيع العربي»، وكان له مواقف غير محايدة في توجيه مجرى الأحداث في الكثير من الدول العربية بدعوى دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان والتداول السلمي على السلطة، لكن تأثيره باتجاه الضغط على «إسرائيل» من أجل حملها على احترام حقوق الشعب الفلسطيني كانت جد محتشمة؛ واستطاعت «إسرائيل» في المقابل أن تضغط بقوة على مجمل الدول الأوروبية من أجل منعها من الاعتراف بالدولة الفلسطينية. ونستطيع أن نلاحظ عطفاً على ما سبق، أن مجمل الدول الأوربية بقيادة حلف الناتو، لعبت دوراً سلبيا في منطقة شمال إفريقيا من خلال إسهامها في زعزعة الأوضاع في ليبيا وفي انتشار فوضى السلاح التي باتت تهدد أمن واستقرار دول الجوار الليبي، ولا يمكن المراهنة حتى الآن، على إمكانية نجاح المساعي الدولية من أجل إنهاء الصراع في ليبيا، حتى يكون بإمكاننا الحديث بكل ثقة عن عودة قريبة للاستقرار في هذه المنطقة الاستراتيجية بالنسبة للأمن الأوروبي، نظراً لقربها الجغرافي من دول الاتحاد المطلة على الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط.
ويمكن القول من دون مواربة، إن التطورات الأخيرة المرتبطة بمأساة اللاجئين السوريين في أوروبا، أسهمت في تعرية وفضح السياسة الخارجية المزعومة لمجموع دول الاتحاد الأوروبي، حيث عبّرت دول شرق أوروبا بكل وضوح ومن دون مساحيق دبلوماسية، عن رفضها للمبادئ وللقيم الإنسانية التي تقول دول أوروبا الغربية إنها تشكل جوهر فلسفة الاتحاد الأوروبي، فقد أصرّت دول شرق أوروبا على عدم استقبال لاجئين من غير المسيحيين، وأكدت من دون حياء ولا خجل أنها ترفض استضافة لاجئين مسلمين فوق أراضيها؛ وأصيب العالم بصدمة كبيرة نتيجة للسلوك العنصري الذي واجهت به قوات الأمن المجرية اللاجئين السوريين؛ واتضح بذلك للقاصي والداني أن أوروبا «الموّحدة» لا تملك أشياء كثيرة توحدها على مستوى القيم والمعايير. وبالتالي فمن الخطأ البناء على المعطيات التاريخية والجغرافية، من أجل الحديث عن هوية أوروبية مشتركة مثلما كان يحلو للمفكرين الألمان والنمساويين والفرنسيين أن يرددوا في كتاباتهم وتنظيراتهم خلال أكثر من قرن من الزمن؛ إذ إنه وباستثناء بعض الدول الأوروبية القليلة وفي مقدمها ألمانيا والنمسا، فإن دول أوروبا الغربية لم تكن في مستوى القيم الإنسانية التي تدّعي الدفاع عنها، سواء في فرنسا أو بريطانيا، حيث تصرفت لندن خلال أسابيع طويلة من أزمة اللاجئين، كأن ما يحدث في جوارها الأوروبي لا يعنيها.
هكذا تحولت عولمة القيم والمبادئ الإنسانية التي تحدثت عنها الدول الغربية إلى عولمة للامبالاة تُهدر فيها القيم الإنسانية ومبادئ حقوق الإنسان، والتزم الكثير من السياسيين والمثقفين الأوروبيين الصمت تجاه مأساة اللاجئين، كأن الأمر لا يعنيهم. وكان لافتاً أن رجال الدين في أوروبا - وفي مقدمهم بابا الفاتيكان- كانوا أكثر حرصاً على الدفاع عن القيم والمثل العليا للعلمانية الأوروبية وعن المساواة وحقوق الإنسان، التي دعا إليها فلاسفة التنوير، من نظرائهم السياسيين الذين سقط بعضهم في شراك ردود الأفعال العنصرية التي يدافع عنها قسم كبير من اليمين الأوروبي. أما الرئيس الأمريكي باراك أوباما، فإنه وبعد صمت رهيب دام أسابيع طويلة، تحدث في الأخير - باستحياء كبير- بعد أن وُجهت سهام النقد لدور بلاده في التعامل مع هذه الأزمة، ليعلن عن استعداد بلاده لاستقبال عدد زهيد، يثير الشفقة والسخرية في الآن نفسه، يقدر ب10 آلاف لاجئ سوري؛ كأن الدولة العظمى في العالم التي أبدعت ونفذت نظريتها حول «الفوضى الخلاقة» في الشرق الأوسط، لا يعنيها كثيراً مصير اللاجئين الذين كان لها «فضل» و«شرف» المساهمة الفعالة في تفكيك أوطانهم ودولهم.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"