سالفيني حفر حفرة فوقع فيها

03:19 صباحا
قراءة 4 دقائق
د.غسان العزي

في مارس/آذار من العام الماضي، تبوأت «حركة النجوم الخمس» المرتبة الأولى من حيث الشعبية في إيطاليا (٣٢،٦٪ من الأصوات) قبل أن تعرف تراجعاً واضحاً لمرتين متتاليتين، الأولى في مايو/أيار من العام نفسه، لحظة تشكيل الحكومة الائتلافية، ثم في نوفمبر/تشرين الثاني بعده، لتصل شعبيتها إلى حوالي ١٧٪ وتبقى في هذا المستوى إلى يومنا هذا، وذلك بعيداً خلف «رابطة الشمال» شريكها في الائتلاف الحكومي (٣٨٪) و«الحزب الديمقراطي» المعارض (٢٣٪).
أسباب تراجع شعبية حركة النجوم الخمس، وهي حركة شعبوية تميل إلى اليسار تحالفت مع «الرابطة» الشعبوية اليمينية المتطرفة، هو أن الحكومة الائتلافية، التي جمعت هذين النقيضين، وقعت في تخبط شديد عندما حاولت تطبيق وعودها الانتخابية.
وزير الداخلية ماتيو سالفيني زعيم «الرابطة»، نجح في الحد من تدفق اللاجئين إلى إيطاليا فارتفعت شعبيته، أما وزير العمل من حركة النجوم الخمس لويجي دي مايو، فأخفق في تطبيق برنامجه القائم على حماية الطبقة العمالية من الفقر والبطالة عبر «قانون الكرامة» الذي يمنح المواطنين مساعدة شهرية تحميهم من العوز مع تخفيض الضرائب والإنفاق العام في الوقت نفسه.
من جهة أخرى نشبت خلافات داخل الحكومة حول ملفات عدة منها مثلاً مشروع بناء خط سكة حديد ما بين مدينتي ليون الفرنسية وتوران الإيطالية أو ملف إعفاء الشركات الإيطالية من قيود مالية وضريبية في وقت تعاني فيه ميزانية الدولة عجزاً خطيراً وعدت الحكومة بالتصدي له.
في بداية هذا الصيف بدا «الكابتن» ماتيو سالفيني الرجل الأقوى في البلاد. فالرأي العام معجب بإدارته لوزارة الداخلية، لاسيما ملفي الأمن والهجرة وإغلاقه للموانئ الإيطالية أمام السفن التي تحمل لاجئين ووقوفه ضد الدول الأوروبية، خصوصاً فرنسا، التي تنتقد سياساته هذه.
إضافة إلى ذلك قام سالفيني، بفرض ضريبة من أجل إصلاح اللامركزية والحكم الذاتي في الأقاليم، وهو إصلاح يريده أنصار (رابطة الشمال)، الذين يتمنون الانفصال عن الجنوب الإيطالي في يوم من الأيام، واستمر في «مكافحة الزمرة» أي الرجال والنساء الذين قادوا إيطاليا قبل العام ٢٠٠٨. هذه الإجراءات وغيرها جعلت سالفيني يحظى بشعبية عارمة قفزت من ١٧٪ في العام الماضي إلى ٣٨٪ بحسب استطلاعات الرأي الأخيرة، وهي قفزة لم يعرفها أي حزب في أوروبا منذ عقود طويلة.
هذه الشعبية أغرت الرجل ودفعته إلى التفكير بحل البرلمان، الذي تنتهي ولايته في العام ٢٠٢٣، والدعوة إلى انتخابات تشريعية جديدة يخرج منها زعيماً مبجلاً لإيطاليا. لكن شريكه الحكومي، حركة النجوم الخمس، الذي يعرف بأنه قد يخسر أكثر من نصف مقاعده البرلمانية في حال جرت الانتخابات اليوم، رفض حل البرلمان.
وهكذا تراكمت المشاكل بين الشريكين الحكوميين، اللذين رغم ذلك نجحا في تطبيق وعد انتخابي بتخفيض عدد المقاعد النيابية من ٩٤٥ إلى ٦٠٠ قبل أن يفاجئ سالفيني الجميع، في الثامن من الشهر المنصرم، بتقديم استقالته من الحكومة معتقداً بأنه سيكون من المستحيل على الأحزاب الأخرى الاتفاق على تشكيل ائتلاف حكومي جديد يحظى بأغلبية برلمانية.
أكثر من ذلك ففي خطاب شعبوي يستنفر فيه قاعدته الانتخابية المتطرفة، أعلن بأنه سيذهب إلى الانتخابات بمفرده وحتى من دون حليفه سيلفيو برلسكوني زعيم «فورزا إيطاليا» إذا اضطر الأمر، وبأنه متأكد أن هذه الانتخابات ستجري في أسرع وقت لأن «الكرامة الوطنية تقتضي إجراءها».
هذه الاستقالة كانت بمثابة زلزال سياسي، وقد وصفتها حركة النجوم الخمس بأنها «خنجر في الظهر.
لكن ما لم يكن بحسبان سالفيني هو الذي حصل؛ إذ اتفق رئيس الوزراء غيسبي كونتي، من حركة النجوم السبع، مع زعيم الحزب الديمقراطي المعارض، ماتيو رانزي، على تشكيل الحكومة الجديدة. مثل هذا التحالف بدا مستحيلاً لدى تشكيل الحكومة في العام الماضي. ولم يملك سالفيني، الذي وقع ضحية عجرفته وحساباته السياسية الخاطئة، إلا اتهام الجميع، بما فيهم الاتحاد الأوروبي والكنيسة الكاثوليكية وحلفائه السابقين، بالتآمر عليه «طمعاً بملايين اليورو التي تدور حول الهجرة غير الشرعية».
وبدأت الانتقادات تنهال عليه من الصحفيين والمراقبين، الذين وصفوه بلاعب من الدرجة الثالثة كاد يفوز بالكرة الذهبية «والمبتدئ الذي لم يأخذ بالحسبان» غريزة البقاء عند البرلمانيين وقدرة السياسة الإيطالية على ابتكار معادلات غير محتملة تحديداً من أجل مواجهة المتطرفين.
في العشرين من الشهر الماضي مد سالفيني يده إلى حليفه السابق معلناً جهوزيته للتراجع عن مواقفه السابقة وبأن «هاتفه مفتوح لمن يريد الاتصال». وقال لويدجي دي مايو زعيم حركة النجوم الخمس لدى خروجه من لقاء مع رئيس الجمهورية سيرجيو ماتيريلا، إن سالفيني، عرض عليه رئاسة الحكومة في حال العودة إلى التحالف معه، لكن دي مايو، رد عليه باتهامه باللامسؤولية والخيانة من أجل مصالح شخصية والعلاقات الغامضة مع موسكو والاستخدام المعيب للرموز الدينية ناهيك بالشعبوية المفرطة.
من الآن وصاعداً ستكون الحكومة الإيطالية برئاسة كونتي نفسه أقرب إلى اليسار، وسيكون «الكابتن» زعيم اليمين المتطرف الإيطالي خارجها يترصد أخطاءها ويتمنى فشلها ويراهن على سفن المهاجرين؛ ليتهمها بالضعف والتهاون ويلجأ لاستنفار وشد عصب القوميين المتطرفين والعنصريين ضدها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"