معايير لضبط الثورات والحراكات العربية

04:25 صباحا
قراءة 3 دقائق

المتتبع للكتابات الناقدة الحديثة في حقول السياسة والاقتصاد والاجتماع، ولكثير من المؤتمرات الدولية يلاحظ الاهتمام المتزايد لموضوع أهمية وضرورة عودة القيم الأخلاقية، لتكون المعيار الذي يُحتكم إليه عند مواجهة ومعالجة المشاكل المستعصية في تلك الحقول .

إنه رد فعل طبيعي على الانجراف المجنون نحو إبعاد القيم الأخلاقية الإنسانية أو تهميشها، بل وممارسة كل ما هو ضد لها، في كثير من النشاطات البشرية في العصور الحديثة . إنه وعي جديد مقاوم لما جاءت به من أهوال وفواجع الممارسة المكيافيلية في السياسة، والأنانية المتوحشة الظالمة للرأسمالية العولمية والليبرالية الحديثة في الاقتصاد، والإفراط العبثي في ممارسة الفردية الجامحة غير المرتبطة بعلاقة التزام إنساني أخلاقي تضامني تجاه العائلة والمجتمع والوطن والعالم، وحتى تجاه بيئة المخلوقات غير البشرية .

وفي الحال يطرح السؤال التالي نفسه: وماذا عن مجتمعات بلاد العرب؟ ألم تكن قيم المكيافيلية القائمة على الخداع والأنانية والتفرد هي السائدة في الأنظمة السياسية العربية المتسلطة الفاسدة عبر القرون؟ ألم يكن الاقتصاد العربي الرَيعي القائم على توزيع الثروة على أسس الولاء بعيداً عن العدالة في التوزيع والمكافأة، هو الذي ميّز الحياة الاقتصادية العربية عبر العصور؟ وإذا كان الغرب قد اشتكى من جموح الفردية المفرط في الانغلاق على الذات أفلم تمارس المجتمعات العربية العكس من خلال سطوة المجتمعات على الفرد وخنق حرياته الشخصية المشروعة ومنعه من الخروج على أي من العادات والتقاليد حتى ولو كانت بالية وغير منطقية؟ ألم تتمادَ تلك السطوة المجتمعية على الأخص بالنسبة للمرأة العربية لتحيلها إلى مخلوق هامشي خارج الحياة العامة ومن أجل المتعة فقط؟

فإذا كان ما حدث في الغرب وغيره كان نتيجة منطقية لغياب القيم الأخلاقية من نشاطات المجال العام، فإن الأمر ذاته حدث في أرض العرب وكان أحد أهم أسباب التخلف الحضاري الذي نعيشه الآن .

مناسبة الخوض في هذا الموضوع وضرورة طرحه بقوة للنقاش هو الحراك الثوري والإصلاحي الكبير الذي يموج في الوطن العربي كله . فإذا كان ذلك الحراك يهدف إلى إجراء تغييرات كبرى في حقول السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة فإن ذلك كله سيكون جهداً ضائعاً على المدى الطويل إن لم يعط اهتماماً كبيراً للجانب القيمي لإحداث كل ذلك التغيير .

ذلك أن الحديث عن المعايير التي ستحكم تلك التغييرات يجب أن يبدأ الآن، خصوصاً بعدما أبانت العديد من التجارب العربية خلال السنتين الماضيتين من عمر حراكات الربيع العربي أنواعاً ومظاهر مفجعة من غياب القيم الأخلاقية في ممارسات بعض القوى السياسية .

دعنا نذكر مثالاً واحداً صارخاً . لقد انتهت بعض الثورات والحراكات الجديدة باستلام السلطة من قبل بعض جماعات الإسلام السياسي في بعض الأقطار العربية . وكان منطقياً أن ينتظر الناس من تلك الجماعات أن تلتزم بصرامة وشفافية وصدق بقيم الإسلام الأخلاقية في جميع تعاملاتها مع السياسة ومع متطلبات الحكم . ولا يحتاج الإنسان لذكر القائمة الطويلة من القيم الأخلاقية الكبرى التي جاء بها الإسلام .

لكن الإنسان فوجئ بأن خمرة السياسة المكيافيلية لعبت بالرؤوس، وإذا بقيم من مثل الصدق في النية والعمل، ومن مثل القسط والعدالة حتى مع ذوي القربى ومع النفس، ومن مثل التعاضد والتفاهم والتسامح في ما بين مكونات الجماعات الإسلامية السياسية، وغيرها كثير . . إذا بكل تلك القيم التي حصلت على شرعيتها في الحياة الإنسانية عن طريق الوحي الإلهي منذ قرون عربية طويلة، ترتبك ويتم التلاعب بها من هذه الجهة أو تلك .

فإذا كان المصدر الإلهي لتطبيق القيم الأخلاقية لم يؤبه به من قبل البعض، ولا نقول الكل كي لا نظلم أحداً، فما بالك بالأخذ بالمصادر الأخرى من مثل القانون الطبيعي ونتائج الدراسات السوسيولوجية الكثيرة، والمصالح المجتمعية المشتركة والأيديولوجيا الإنسانية، بل حتى الحدس الإنساني البحت؟

إذاً، لابد من جعل النقاش القيمي الأخلاقي جزءاً أساسياً من الحياة العامة العربية الآن وفي الحال . فاذا كنا نريد من الثورات والحراكات أن تقود إلى تقدم نهضوي عربي شامل فلنطرح بقوة موضوع المعايير التي ستحكم ذلك النهوض، المعايير المجتمعية والفردية على السواء . ولنبدأ أولاً بالنقد الشديد للأشكال السود البغيضة من المعايير التي سادت الحياة العربية عبر العصور، ولكن بالأخص إبان الحياة العربية المعاصرة .

لقد فجعت الأمة في عصرها الحديث بأناس ينادون بالوحدة العربية وهم قطريون حتى النخاع، وبوحدة الإسلام وهم طائفيون مبتذلون، وبالتسامح والتعايش المشترك وهم يهمشون أتباع الديانات الأخرى، وبالعدالة وهم فاسدون ناهبون للثروات العامة، وبالديمقراطية وهم مستبدون في بيوتهم ونواديهم وأحزابهم .

إنها لعبة إقصاء القيم الأخلاقية وتشويهها . إنها لعبة الكذب على النفس وعلى الآخرين، بل حتى محاولة الكذب على الله، تعالى عما يفعلون .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"