الثورات العربية وتكنولوجيا الاتصالات الحديثة

04:58 صباحا
قراءة 3 دقائق

كثرت التحليلات عقب انتصار الثورات الشعبية العربية في العام الماضي عن دور تكنولوجيا الاتصالات الحديثة، من الإنترنت والشبكات الاجتماعية والفضائيات، وفضلها في انتصار هذه الثورات، حتى إن بعض المحللين جزموا بأنها ثورات الإنترنت فلولاه لما قدّر لها النجاح .

صحيح أنه، من الناحية السوسيولوجية على الأقل، فإن دخول التكنولوجيا الرقمية في المجتمع أدخل تحّولاً عميقاً في أنماط التفاعلات بين الافراد ووسطهم الاجتماعي، لكن التطورات الاجتماعية بقيت مستقلة عن التقنية نفسها . الإنترنت والهاتف المحمول يمحوان المسافات بين الفضائين العام والخاص، ويختصران الوقت، فيجعلان العمل الجماعي أكثر فعالية وتأثيراً . أي إنهما يسمحان بالاتصال بين عدد غير محدود من الناشطين وتبادل المعلومات وتنظيم اللقاءات والنشاطات بغض النظر عن المسافة وطبيعة المكان اللتين تفصلان ما بين الأفراد . إنهما يوفران فرصة في هذا المجال . لكن ليست التقنية نفسها ما يحّول العلاقات الاجتماعية بل طريقة استخدامها هي التي تحفّز القوى التي كانت موجودة في المجتمع قبل انتشار هذه التقنية وتجعلها راهنة . إنهم المستخدمون أو المستهلكون الذي يكرّسون التقنية لأغراضهم وليس العكس .

إن نشر المعلومات والصور المثيرة للعواطف والانفعالات وتنظيم التجمعات عن طريق فيس بوك أو تويتر أو غيرهما، وانخراط النخب الشابة المدينية الجديدة أو الدياسبورا لا يكفي لإسقاط النظام، بل أحياناً، كما حدث في تونس والبحرين وسوريا وليبيا ومصر، فإن السلطة تلجأ إلى هذه التقنيات ضد الثورة، وذلك عبر المراقبة وبث الرسائل الزائفة والتضليل . وقد تمكنت مخابرات هذه الدول من القبض على كوادر من الثوار بفضل هذه التقنية التي تَبيّن أنها سلاح ذو حدين . فالسلطات المصرية على سبيل المثال لا الحصر تمكنت من ملاحقة الناشط المعروف وائل غنيم عن طريق الشبكة الاجتماعية الرقمية التي يستخدمها (موقع كلنا خالد سعيد الشهير على فيس بوك والذي كان عدد المشتركين فيه 120 ألفاً عشية الثورة ليصبحوا 1،8 مليون خلالها) قبل إلقاء القبض عليه، كما تمكنت من حجب فيس بوك وتويتر وغوغل وتفكيك رموز وكشف كلمات سر يتواصل عبرها الناشطون .

الأمر نفسه ينطبق على الفضائيات التي أسهمت في نشر صور الأعداد الغفيرة من المتظاهرين ضد النظام في الساحات العامة وقمع السلطات لهم وغير ذلك . لكن النظام أيضاً استخدم الفضائيات ليبث صور الجماهير المؤيدة له ولينشر صوراً تمكن من تزييفها، أي أنه حارب الثورة بسلاحها وهو يسيطر على الإعلام أكثر منها . بمعنى آخر، تكيفت الأنظمة مع الوضع الجديد واستخدمت السلاح التكنولوجي نفسه ضد من يستخدمه .

لا ننسى أن النظام نفسه شجع على تعاطي تكنولوجيات الاتصال الحديثة، وذلك لغايات ربحية واستخباراتية . فالرئيس التونسي ابن علي كان فخوراً جداً بأنه نظم، في نوفمبر/ تشرين الثاني ،2005 قمة عالمية لمجتمع المعلوماتية في تونس العاصمة . هذا القطاع مربح جداً، لذلك سيطر عليه في مصر وليبيا وتونس واليمن وسوريا المقربون جداً من الرئيس، بالتحديد إخوته وأولاده وأصهاره . وقد ارتفع عدد مستخدمي الإنترنت والهاتف المحمول في العالم العربي بطريقة محمومة وانتشرت مقاهي الإنترنت في المدن وحتى الأرياف، كما وصلت الفضائيات إلى كل بيت ومقهى وساحة عامة .

في المحصلة إن تأكيد أن الثورات العربية هي ثمرة للتكنولوجيا المعلوماتية الجديدة يعني بشكل غير مباشر عدم الاحترام الأخلاقي لبطولات الثوار الذين يخاطرون بأرواحم لدى مشاركتهم في المظاهرات السلمية التي يقمعها الأمن بعنف ووحشية . لكن القول إن هذه التكنولوجيا ساهمت يعني تأكيد الكفاح السلمي للشباب المتعلم والمنظم والمسيّس أي بشكل آخر منحه الشرعية .

فيس بوك لم يكن ضرورياً ولا حتى كافياً لقيام الثورة، هذا ما قاله صاحب ومؤسس شركة فيس بوك مارك زوكربرغ رداً على من اعتبروا أنها ثورة فيس بوك أو ثورة الإنترنت . وعلى السؤال: هل كانت ثورة 52 يناير المصرية لتحصل لو لم يكن هناك الإنترنت، أجاب وائل غنيم بأنه من الضروري عدم تضخيم دور الإنترنت وفي الوقت نفسه عدم التقليل من تأثيره . ففي عام 1977 قمع الرئيس السادات بعنف شديد ثورة الخبز . صحيح لم يكن هناك الإنترنت، ولكن في عام 2010 كان هناك الإنترنت وشبكات تواصل اجتماعي وهواتف محمولة وفضائيات ولكن لم تتحول الاحتجاجات والاعتصامات العمالية والشعبية وقتها، وكانت الأكبر والأهم منذ ثلاثين عاماً، لم تتحول إلى ثورة تسقط النظام .

ما حدث في عام 2011 ثورة شعبية في عصر الإنترنت وليس ثورة الإنترنت . كذلك الأمر لم تكن ثورة فضائيات، بل ثورة في عصر الفضائيات التي أسهمت في إنجاح الثورة عبر نقل مشاهدها إلى الرأي العام العالمي في أصقاع الأرض الأربعة .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"