من وحي قمة العشرين لحوار الأديان

04:12 صباحا
قراءة 5 دقائق
د . يوسف الحسن
في مدينة بريزبين الأسترالية، انعقدت قبل نحو أسبوعين، قمة مجموعة العشرين (التي تمثل نحو 85 في المئة من الاقتصاد العالمي)، كان المشهد العام لهذه القمة، مثيراً للغاية، ففيه من حرب الخنادق الشيء الكثير، وفيه أيضاً من الفوضى والسير نحو حرب باردة جديدة، وفيه من الخفة نصيب في معالجة قضايا البشرية وأزماتها، وفيه الكثير من "الإهانات" الغربية لروسيا، ليس أقلها اعتبار روسيا أحد الأخطار الثلاثة التي تهدد البشرية (إضافة إلى خطر داعش ووباء إيبولا) .
وفي مدينة "غولد كوست" الأسترالية الساحلية، وبعيداً عن ثرثرة الساسة الكبار، كانت تنعقد قمة أخرى لمجموعة العشرين، لمناقشة حوار الأديان، ومسائل الحرية الدينية وعلاقتها بحقوق الإنسان، وبقضايا التنمية .
وكان نموذج دولة الإمارات في الحرية الدينية، على رأس جدول هذه القمة، التي شارك فيها علماء دين وأساتذة لاهوت، وممثلون لكنائس ومعابد وديانات ومعتقدات معتبرة، وخاصة في آسيا، فضلاً عن نجوم بارزة إعلامية واقتصادية، ومراكز أبحاث وقادة رأي عام .
لا أحد التفت إلى "ملابس" البوذيين القادمين من نيبال، ولا "السيخ"، ولا هؤلاء الذين يرتدون غطاء الرأس اليهودي (الكيباه)، ولا لأصحاب اللحى الطويلة من مسلمين هنود وآخرين من جنوب إفريقيا . أما اللحن الجوهري السائد في اليومين الأولين من المؤتمر، فهو لحن الإرهاب، وعلى هامشه تحدث كثيرون، وبإشارات ملتبسة، عن علاقة الدين الإسلامي بالإرهاب والتعصب وعدم التسامح، واستحضر البعض الفيلسوف اليهودي موسى بن ميمون، المنفتح والمتسامح مع الغير المختلف، لكن هذا الاستحضار جاء خالياً من حقيقة الثقافة والحضارة التي عاش فيها ابن ميمون، وكتب مؤلفاته بلغتها، وهي الثقافة العربية والحضارة الأندلسية واللغة العربية . . وأهلته ليكون الطبيب الخاص لصلاح الدين الأيوبي .
كانت صاحبة هذا الخطاب، هي الدكتورة "راشيل كوهين" أشهر مذيعة راديو وتلفزيون وطني أسترالي ABC، والتي أصرّت على استضافة عضوي وفد الإمارات في هذا المؤتمر (عفراء الصابري، ونضال الطنيجي) في برنامجها الإذاعي، في محاولة لاستدراجهما نحو قضايا سياسية شائكة، لكن هذه المحاولة فشلت، وقدمت ابنتا الإمارات صورة طيبة عن قضايا المرأة، ومسائل الحرية الدينية في الإمارات .
في اليوم الأخير للمؤتمر، استمع المشاركون إلى خطاب الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان وزير الثقافة والشباب وتنمية المجتمع، بعد أن منحته قمة العشرين لحوار الأديان، جائزة القمة للتسامح والحرية الدينية، والتي قال عنها معاليه: "إنها جائزة لتكريم الإمارات في هذا المجال" .
والخطاب المذكور، يستحق أن يُدرس لأبنائنا في المدارس والجامعات، كنموذج معتبر لقيم التسامح في الأديان، ومذكراً بفضائل القائد المؤسس المغفور له الشيخ زايد في هذا المجال، وبعناصر قصة النجاح التنموي في بلادنا .
وفي جلسة الختام، تحدث ممثلو الكنائس والمعابد الدينية في الإمارات، عن واقع الحرية الدينية التي يتمتعون بها في شتى مدن الإمارات، وبينوا للمشاركين في المؤتمر، أن عدد الكنائس لمختلف الطوائف المسيحية وصل إلى 42 كنيسة، فضلاً عن معابد للسيخ والبوذيين، وأماكن مخصصة لحرق الموتى الهندوس، وأخرى لدفن الموتى . . وكلها أقيمت على أراضٍ منحتها الدولة، وبعضها تلقى دعماً مادياً لإقامة أماكن للعبادة .
قدم ممثلو الكنائس والمعابد، تجربتهم بكل صراحة وشفافية، وتحدثوا عن قصص مثيرة للإعجاب، وأحسب أن قاعة المؤتمر المكتظة بالمشاركين، كانت تنصت بدهشة، وهي تستمع لتجربة الإمارات، في الحرية الدينية، وهي الحرية التي كفلها الدستور لغير المسلمين . . وتتردد بعض دول العالم الغربي والآسيوي في تطبيقها، رغم صوتها العالي في قضايا الحريات والأقليات .
تحدثت في هذه الجلسة، عن مفهوم التسامح، أي الاعتراف المتبادل بالحق في الاختلاف، والتعامل بانفتاح مع قواعده وقيمه، من دون تهاون إزاء العدالة وحقوق الإنسان، والتسليم بالتنوع تحت سقف الهوية الوطنية الجامعة، والاعتراف بالآخر المختلف عنا، ديناً أو ثقافة أو لغة أو هوية .
وذكرت، أن نقيض التسامح هو الغلوّ والتعصب والإقصاء، والعنف والاستبداد والتحريم والتكفير وتقييد الفكر، ومصادرة الرأي .
وأشرت إلى تجارب هذه الكنائس في الإمارات، نموذجاً يحتذى، لدولة عربية مسلمة، فهمت جوهر الإسلام، وأشاعت مفهوم التسامح وعززته، من خلال سياسات وممارسات وأفعال، وأشرت إلى تجربة الإسلام عبر 15 قرناً، حينما قدم حواراً ثرياً مع الديانات والفلسفات والثقافات الأخرى، ومع أتباعها وطوائفها وشعوبها، وكان الاختلاف عامل إثراء وإبداع على كل المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية والحضارية، ودعا الإسلام أتباعه للانتصار للمظلوم والمضطهد، بغض النظر عن دينه أو معتقده، وأشاع الحوار والتواصل بين الشعوب، والاستقامة الفكرية والخلقية في التعامل مع الآخر، والتزام مبدأ العدل، والإنصاف .
في تجربة الإمارات، ما لا يقطع جسراً مع الآخرين، وفيها أيضاً دعوة للتفريق بين الإسلام ديناً، ومن يدينون به، أو من تضطرب عندهم الممارسة . وقلت إن "الاختلاف هو سنة من سنن الله في خلقه، غير خاضعة لأي تبديل أو تحويل"، وإن رسالة الأديان هي المحبة والرحمة، وإن العيش المشترك لا يستقيم بغير احترام المشاعر والرموز والمقدسات الخاصة بالآخر .
وأكدت أن الحريات الدينية هي حقوق إنسانية، وأشرت إلى عدد من الأمثلة لتأكيد هذه القيم الروحية والإنسانية، ومن بين هذه الممارسات: قيام الإمارات بترميم أكثر من 80 كنيسة قبطية في مصر بعد أن أحرقها أنصار جماعة الإخوان إثر سقوط نظام حكمهم في مصر .
كثيرة هي القضايا التي كانت موضع الحوار والنقاشات، ويبدو أن صَدمة المعلومات والبيانات الصريحة والموثقة التي قدمها ممثلو الكنائس في الإمارات، عن الحرية الدينية التي يتمتعون بها، دفعت سيدة أسترالية، تبدو عليها ملامح ارستقراطية، وتجلس في الصفوف الأولى، لطرح سؤال، ربما دار في رؤوس بعض من تعلوها قلنسوة (الكيباه)، وربما أزعجتهم أيضاً قصة نجاح هذا النموذج الإماراتي .
قالت السيدة بصوت جهوري: "حسناً . . إذا كان ذلك (أي الحرية الدينية) صحيحاً، فلماذا لا تسمحون بإقامة كنيس يهودي في الإمارات؟" .
كان السؤال موجهاً إلي بشكل مباشر، مر برأسي سريعاً، ما يشبه الشريط السينمائي، عسكر الاحتلال وهم يدنسون المسجد الاقصى، وهم يقتلون المصلين في الحرم الإبراهيمي، وهم يدمرون أسوار كنيسة المهد (ويتكفل المغفور له الشيخ زايد بترميم الأسوار)، . . إلخ
تنبهت إلى أن في السؤال فخاً سياسياً، ومحاولة من السائلة لتشويه صورة الإمارات الطيبة التي استمع إليها المؤتمر قبل قليل، استجمعت ما لدي من مخزون "التواصي بالحق والصبر" وخبرة دبلوماسية، وبدأت في شرح مسألة اكتمال إيمان المسلم، الذي لا يتم إلا بالإيمان بكل الرسل "لا نفرق بين أحد من رسله"، وقلت: "إننا في بلادنا لا نسأل الزائرين أو المستثمرين عن دينهم أو معتقدهم، وهذا يعني أنه يمكن أن يكون من بينهم فرنسيون يهود، وأمريكيون يهود وأستراليون يهود . . إلخ، لكن ولحد علمي فإنه لم تتلق أية جهة رسمية طلباً من عدد من هؤلاء . لإقامة SYnagoge يهودي" .
صمتت قاعة المؤتمرات للحظات، ثم سمعت تصفيقاً واسعاً، ونظرت إلى السيدة صاحبة السؤال، وكأني اسألها، "هل جوابي هذا يرضيك؟"، لكنها كانت في تلك اللحظات تستعد لمغادرة مقعدها مسرعة إلى خارج القاعة .
في قمة العشرين لحوار الأديان، سَجل الشيخ نهيان، في خطابه، وفي تشكيلة الوفد المشارك والمدعو لهذه القمة، من خلال وزارة الثقافة، قصة نجاح، تحتاج إلى رعاية ومتابعة ومأسسة .
حوار الأديان والثقافات - الحوار الندي - هو "طريق الحرير" الجديد للمشترك الحضاري والإنساني .
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"