جدلية التفتيت والجمع في بلاد العرب

04:00 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. علي محمد فخرو

في الآونة الأخيرة، صعدت أصوات البعض من المنادين بأن يقصر الفرد العربي اهتماماته على الدولة القطرية الوطنية التي يعيش فيها، وأن يبعد نفسه عن الاهتمام الملتزم، بكل تبعاته وتعقيداته، بما يجري في وطنه العربي الكبير. وبالطبع فإن تلك الأصوات، بقصد أو من دون قصد، تتناغم وتتعاضد مع أهداف تاريخية وحالية لبعض الدوائر الاستعمارية الغربية والصهيونية، والتي تسعى إلى إخراج الهوية العروبية الموحدة للأمة، ومن ثم المشروع الوحدوي العربي، من ذاكرة وعقل ووجدان كل إنسان عربي، وعلى الأخص شابات وشباب الأمة.
إن هذه الأصوات تردد ليل نهار بأن لكل قطر عربي خصوصياته التاريخية والسلوكية واللغوية التي تميزه عن بقية الأقطار العربية، وأن وضع التقسيم الحالي للوطن العربي إلى دول مستقلة، بذاتية خاصة، أصبح جزءاً من الواقع العربي لا يمكن تبديله، وبالتالي من الحصافة قبوله، وأنه نتيجة لذلك أصبح لكل قطر مصالحه والتزاماته وارتباطاته وآماله وأنظمته السياسية الخاصة به.
وبالطبع ما كان لتلك الأصوات أن تعلو لولا الوضع المأساوي التمزيقي الحالي الذي تعيشه أجزاء كبيرة من الوطن العربي، لولا الصعود الكبير للنفوذين الصهيوني والأمريكي في بعض الأقطار العربية.
لكن ما لا تعيه تلك الأصوات النشاز الغاضبة؛ بل وما تحاول أن تخفيه عن مدارك ووعي الإنسان العربي العادي، هو أن فقدان السياسة العربية المشتركة الجامعة، وغياب الالتزامات القومية التضامنية في ما بين الأقطار العربية قد أدى إلى انكشاف و ضعف وعدم كفاءة السياسة القطرية المستقلة. وها نحن اليوم نرى كيف أصبحت السياسات القطرية، المبتعدة عن محيطها العربي القومي، لعبة في يد قوى متآمرة وقوى إقليمية طامعة.
والنتيجة أن العديد من الأقطار العربية تغرق، وتكاد تموت، من جراء الهجمات الخارجية الممنهجة عليها، خصوصاً بعد أن وجدت تلك الجهات الخارجية في منظومات الجهاد الإسلامي التكفيرية العنفية المجنونة، أدوات جاهزة لتنفيذ كل مخططاتها تجاه كل قطر على حدة.. ومع الأسف فإذ تغرق تلك الأقطار فإنها لا تجد دولة عربية واحدة، تمتد لإنقاذها.
ولو أن تلك الأصوات المنكفئة قطرياً على نفسها والداعية إلى الخلاص القطري، أمعنت النظر، بهدوء ورزانة، في الصورة الحالية للوطن العربي كله، لأدركت كم أن غياب القومي قد أنهك وأضر القطري الوطني في كل الساحات.
دعنا هنا نستحضر لانتباه تلك الأصوات ما كتبه في عام 1992، في جريدة «واشنطن بوست»، أحد كبار الصحفيين الأمريكيين، جيم هو غلند، قائلاً: «كان تفسيخ السياسات العربية وتجزئتها إلى نتف، هدفاً أساسياً من أهداف كبار مخططي وزارة الخارجية الأمريكية لعملية عاصفة الصحراء».
بالنسبة لأمريكا، وبالطبع الكيان الصهيوني، يجب أن لا توجد قضايا عربية سياسية مشتركة، وأن تحل محلها قضايا سياسية تحت مسميات مصرية ومغربية وكويتية وسورية إلخ..
دعنا أيضاً نستحضر لهذه الأصوات تاريخ محاربة الاستعمار الغربي في طول وعرض بلاد العرب. هل كان باستطاعة الكثير من الأقطار العربية المستعمرة نيل استقلالها لو لم تحصل حركاتها الوطنية على أنواع لا تحصى من الدعم والمساندة من شقيقاتها الأقطار العربية الأخرى؟
وهذا ينطبق على الأخص على أقطار الخليج العربي في مقاومتها للاستعمار البريطاني، وهي مع الأسف الأقطار التي تعلوا في بعضها تلك الأصوات النشاز، المعارضة لكل توجه قومي تضامني وحدوي في حل قضاياها وقضايا غيرها.
لا يقتصر الأمر على حقل السياسة، فحقل الاقتصاد والتنمية يطاله هو الآخر رذاذ ذلك التوجه العجيب. فما أن يتكلم أحد عن أهمية التنسيق والتضامن والتوحيد العربي في حقل التنمية الإنسانية والاقتصاد الإنتاجي والانتقال إلى عصر المعرفة والتكنولوجيا حتى تنبري تلك الأصوات بوصف تلك المحاولات بالأحلام الطفولية المستندة على أوهام إيديولوجية. وينسى هؤلاء أن محاولات التنمية الإنسانية الشاملة قد فشلت فشلاً ذريعاً في كل قطر عربي حاول أن يقوم بها لوحده وضمن إمكانياته.
وهذا موضوع كبير كتبت عنه الكتب التي خرجت جميعها بالاستنتاج المنطقي بأهمية خطوات التنسيق والتعاون والتوحيد العربي في حقول الاقتصاد والمعرفة والتكنولوجيا وغيرها.
ومرة أخرى ترفع تلك الأصوات في وجوهنا مقولة أن هذا العصر هو عصر عولمة وتتجاهل ما فعلته العولمة النيولبرالية، المتبناة من قبل كل الأقطار العربية، بالمجتمعات العربية من عرقلة الانتقال من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد إنتاجي، ومن فقدان كل استقلال في القرارات الاقتصادية وتحكم من قبل المؤسسات المالية العولمية، ومن ازدياد في الفقر واتساع في الهوة بين الفقراء والأغنياء، ومن تراجع مذهل في حجم الطبقة الوسطى، ومن ازدياد في معدلات البطالة.. إلخ.
من حقنا أن نسأل: ألا يستطيع مفكرو ومثقفو وسياسيو هذه الأمة، أن يتجنبوا ممارسة التطرف والحدية في كل ما يطرحونه من أفكار ومواقف، ويتعاموا مع قضاياهم ومستقبلهم بهدوء وموضوعية ورزانة، تبعدهم عن الغوغائية المبتذلة في بعض ما يقولونه أو يكتبونه؟

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"