نظرة على الأزمة

04:18 صباحا
قراءة 4 دقائق

تشكل مصر هذه الأيام مختبراً ساخناً وصاخباً ليس فقط لتصارع الإرادات السياسية والحزبية، بل كذلك للصراع بين الشرعية الدستورية والشرعية الشعبية، لتحديد دور القوات المسلحة في الحياة العامة، وللحق في حرية التعبير بما فيه التظاهر واحتمال تحول التجمعات الجماهيرية إلى نزاع أهلي، وكذلك لاختبار مدى جدية سلمية التحركات في الشارع .

لقد تسارعت الأحداث وهي ما زالت تتسارع وبأسرع مما توقعه كثيرون، وتتسم هذه الأحداث بغلبة الطابع الجماهيري عليها، وهو ما يجعلها غير قابلة للسيطرة وأحياناً توجيهها من قبل المراكز السياسية والحزبية . لقد كان أمراً ذا دلالة أن التطورات العاصفة في أواخر شهر يونيو/ حزيران الماضي قادتها وفجرتها حركة شعبية شبابية تدعى تمرد التي نشطت في حملة جمع تواقيع لنزع الشرعية عن الدكتور محمد مرسي وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة، وقد نجحت في جمع تواقيع ما يزيد على عشرين مليون مصري، تماماً كما كان الحال مع حركة 6 إبريل ومن ائتلف معها من جماعات، والتي أسهمت بشكل مباشر في ثورة 25 يناير .

صراع المفاهيم المشار اليه، ليس من قبيل السجال الذهني والفكري، فليس هناك من سجال مجرد في أرض الكنانة منذ عامين على الأقل، إنه صراع سياسي واجتماعي يدور في الشارع وفي المؤسسات . لا شك في أن الشرعية الدستورية ركن ركين في الدول الديمقراطية، لكن هذه الشرعية ليست ذات حصانة مطلقة ودائمة . ففي الدول الديمقراطية حين تنشب أزمة سياسية حادة غير قابلة للحل في اطار المؤسسات البرلمانية والقضائية، فإنه يصار إلى إجراء انتخابات مبكرة كي يقول الشعب كلمته، ويتجدد التفويض الشعبي لممثلين منتخبين . في حالة مصر ومع غياب البرلمان ومع الاستقالات التي شهدها مجلس الشورى، ومع ظهور حركة عصيان في الشارع ومع تمركز السلطات في يد الرئاسة، فقد كان من المنطقي إن يصار إلى إجراء انتخابات رئاسية مبكرة . وكان بوسع مرسي المناورة بالموافقة على إجراء الانتخابات في موعد مبكر مقابل احتفاظه بمركز الرئاسة . لكنه رفض ذلك، وأنكر وجود ثورة في الشارع وقد تنازل تنازلاً مهماً ولكن ليس كافياً في اليوم الأخير بالموافقة على تشكيل حكومة جديدة تشرف على انتخابات برلمانية لا رئاسية .

يصعب القول الآن إن القوات المسلحة قامت بانقلاب . اذ لم يستول الجيش على السلطة ولم يتحرك في ظروف عادية بشهوة السلطة، بل إن ظرفاً استثنائياً ضاغطاً هو ما أملى عليه تحركه، ولا وضع الجيش على رأس الحكم المؤقت شخصا ينتمي إليه حالياً أو سابقاً، بل استند الخيار إلى مبدأ دستوري بوضع السلطة بين يدي رئيس المحكمة الدستورية، وهو عدلي منصور الذي سبق أن شارك محمد مرسي بنفسه في اختياره لهذا المنصب قبل فترة وجيزة .

تدخل القوات المسلحة المصرية هذه المرة يكاد يكون سيناريو متكرراً لتدخله في 25 يناير، وهو تدخل لاقى ارتياحاً لدى جماعة الإخوان آنذاك، والآن إذ يُنْعت تحرك الجيش بأنه انقلاب، فذلك يلقي الظلال على ثورة 25 يناير، إذ يتعين احتسابها ضمن هذا المنطق انقلاباً .

مع ذلك فإن الدفاع عن مبدأ الشرعية الدستورية مفيد، كي يستقر هذا المبدأ في أذهان الجميع، ومن هنا تتبدى الحاجة إلى إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية، وإعادة النظر في الدستور بغير ما توجيه حزبي أو تحت خيمة حزب واحد حتى لو كانت له أغلبية في البرلمان . وبما يضمن تفعيل الشرعية الدستورية في اقصر الآجال، أياً كان المصير السياسي لمحمد مرسي الذي يضغط مؤيدوه لإعادته إلى مركز الرئاسة، والذي طالب شيخ الأزهر بإطلاق سراحه أو بالأحرى وقف التحفظ عليه .

لقد أثبتت القوات المسلحة المصرية أنها ضامن حقيقي للسلامة العامة ولاحترام إرادة الشعب . والذين يسألون لماذا لم يتحرك الجيش في اثناء الحكم الطويل لمبارك، فهم في واقع الأمر يستبطنون ويحبذون مبدأ الانقلاب . وينظرون للقوات المسلحة كطرف سياسي أو سلطوي، إذ لم تشهد فترة مبارك الطويلة ازمة وطنية عامة وشديدة الاحتدام سوى في أواخر حكمه، وعندها فقط تدخل الجيش، رغم أن قادته قد عينهم الرئيس بنفسه، تماماً كما عيّن مرسي الفريق السيسي وبقية القادة الذين اضطروا لوضع خريطة طريق بالتوافق مع قوى سياسية واجتماعية ودينية .

الخشية الآن من تنامي التصعيد إلى درجة الاقتراب من النزاع الأهلي باللجوء إلى خيار العنف، وهو ما يفسر التحفظ على قيادات اخوانية . في دول عالمثالثية أخرى يجري الرد على إطلاق رصاصة، بقصف مدفعي وصاروخي على المتظاهرين وحتى على المشيعين في جنازة! . لم يحدث ذلك في مصر، بل تم اللجوء إلى وسائل قانونية بالتحفظ على عدد من القادة، لمعرفة من يوفر الأجواء لممارسة العنف، من يحرّض عليه أو يجيزه، من يوفر الأسلحة والعتاد . ويفترض أن تأخذ العدالة مجراها بسرعة، وأن تتم المواءمة بين المقتضيات الأمنية الملحة، وبين الحاجة إلى إشاعة انفراج وطني وسياسي يجتذب اليه التيارات الإسلامية القريبة من الإخوان .

التطورات ما زالت تتواصل وتتفاعل، وفي القناعة أن المخاض الطويل سوف يثمر ثمرات طيبة في أمد غير بعيد، فالثقافة المصرية المدينية الراسخة تنبذ العنف من أي مصدر أتى سواء كان عنفاً سلطوياً أو أهلياً أو حزبياً، ومفهوم الفرعون الحاكم بأمره وبأمر أسرته انتهى إلى غير رجعة، ومعه مفهوم الحزب الحاكم الذي يسيطر على مفاصل الدولة ومصالح العباد . وفي ذلك دروس حرِيٌ بالمشرق العربي الإفادة منها .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"