فرنسا بين القوة والضعف

04:46 صباحا
قراءة 4 دقائق
الحسين الزاوي

عاشت فرنسا خلال قرن من الزمن تحولات كبرى على جميع المستويات الجيوسياسية، والثقافية، والاقتصادية، وتحوّلت في ظرف عقود قليلة، من قوة استعمارية عظمى تتقاسم مناطق النفوذ في العالم مع التاج البريطاني، إلى قوة متوسطة مقارنة بدول مثل أمريكا، والصين، واليابان؛ كما انتقل إشعاعها الفكري والثقافي من مرحلة سيادة اللسان الفرنسي على الدبلوماسية العالمية، ومدونات القانون الدولي، إلى مرحلة تراجع حضاري شامل، وصلت حد قيام رئيس جمهوريتها بإلقاء خطابه أمام الكونجرس الأمريكي باللسان الإنجليزي. وقد عرف نفوذها المباشر على مستوى محيطها الإقليمي في أوروبا تقلصاً كبيراً، لاسيما مع بداية الألفية الجديدة، نتيجة تمدد الاتحاد الأوروبي نحو الشرق المتأثر بشكل لافت بالثقافتين الأنجلوساكسونية والجرمانية، الأمر الذي بات يطرح تساؤلات جدية بشأن مستقبل علاقات باريس بجيرانها وخصومها التاريخيين من جهة، وبدول شرق أوروبا، من جهة أخرى.
تجد باريس في المرحلة الراهنة صعوبة بالغة في المحافظة على علاقة قوية واستراتيجية مع بريطانيا، بالرغم من المجاملات الدبلوماسية التي تطبع اللقاءات السياسية ما بين قادة البلدين، ولم يكن مستغرباً بالتالي أن يعبّر القسم الأكبر من الفرنسيين، على خلاف نظرائهم الألمان على سبيل المثال لا الحصر، عن ترحيبهم ب»البركسيت» البريطاني. ولا يبدو أن الفرنسيين مقتنعين حتى الآن، بضرورة تقديم تنازلات جوهرية للبريطانيين في ما يتعلق بالشروط الاقتصادية لعلاقات المملكة المتحدة مع دول الاتحاد الأوروبي، في مرحلة ما بعد استكمال إجراءات طلاق المملكة المتحدة مع مؤسسات الاتحاد في بروكسل.
كما أن علاقات باريس بدول مثل إيطاليا و،اسبانيا، ليست مثالية، فهناك تنافس واضح مع هاتين الدولتين في ما يتعلق بمناطق النفوذ جنوبي المتوسط، حيث برزت مؤخراً خلافات واضحة مع إيطاليا بشأن ملفات أساسية، كالهجرة السرية والمستقبل السياسي لليبيا، أو بالنسبة للعلاقات الاستراتيجية التي تربط روما بالجزائر على مستوى صناعة البترول والغاز.
ونستطيع أن نلاحظ في هذا السياق، أن فرنسا تعتمد في المحافظة على نفوذها داخل الاتحاد الأوروبي على علاقاتها الوثيقة مع ألمانيا منذ فترة الخمسينات والستينات من القرن الماضي، لكن هذا التحالف التكتيكي الذي خدم مصالح الدولتين على مدى أكثر من نصف قرن، لم يستطع أن يخفي كل التخوفات والهواجس التاريخية الموجودة ما بينهما. حيث سبق للرئيس فرانسوا ميتران أن عبّر عن تحفظه على مشروع توحيد الألمانيتين مع نهاية الحرب الباردة. والشيء نفسه نلاحظه لدى بعض الأوساط السياسية الألمانية التي تشكك في نوايا الفرنسيين عندما يقدمون أنفسهم مع ساركوزي، أو الآن مع ماكرون، على أنهم شركاء موثوق بهم في أوروبا بالنسبة لواشنطن، وقد أشارت إحدى الصحف اليمينية الألمانية على هامش زيارة الرئيس الفرنسي الأخيرة للبيت الأبيض، إلى أن باريس تقوم بممارسة دور الفارس المنفرد مع واشنطن على مستوى السياسة الخارجية الأوروبية، وليس من المؤكد أن يكلل مسعاها بالنجاح. كما أنه من المستبعد في السياق نفسه أن تتخلى واشنطن عن تحالفاتها التاريخية مع بريطانيا لمصلحة تحالف العطر والموضة مع باريس.
لكن المشكلة الكبرى التي تواجهها فرنسا في محيطها الإقليمي تتعلق بعلاقاتها المتوترة منذ فترة حكم الرئيس جاك شيراك مع العديد من دول أوروبا الشرقية، وقد عمقت التوجهات الشعبوية الأخيرة لعواصم هذه المنطقة من حدة الخلافات مع باريس، وقد تدخل الرئيس الفرنسي ماكرون مؤخراً، أمام البرلمان الأوروبي في ستراسبورج بتاريخ 17 إبريل/‏ نيسان، من أجل انتقاد التوجهات القومية المتشددة في شرق أوروبا، وتحدث عمّا أسماه «الديمقراطيات غير الليبرالية»، في إشارة منه لما يحدث من تشدد سياسي في المجر تجاه المهاجرين، وفي بولونيا نحو الشيوعيين، بسبب تخوف وارسو المرضي والمزمن من كل ما له علاقة بالدب الروسي، الأمر الذي يجعل كلتا الدولتين تقوم بممارسات مناهضة للحريات الفردية، وللقيم التي بني عليها الاتحاد الأوروبي. وعليه، فإنه ومع تزايد توسع الاتحاد الأوروبي شرقاً، وانضمام عدد كبير من دول أوروبا الشرقية خلال العقدين الأخيرين إلى المؤسسات الأوروبية في بروكسل، يشهد النفوذ الفرنسي تراجعاً غير مسبوق، على جميع المستويات لاسيما على المستوى الثقافي واللغوي، بعد أن حوّلت هذه الدول اللسان الإنجليزي إلى لغة «الأسبرانتو» الدولية بالنسبة لجميع دول القارة العجوز.
وقد كان لهذا الانتقال الفرنسي من مرحلة القوة إلى مرحلة التراجع الحضاري تأثيرات واضحة في مصداقيتها كقوة عظمى سابقة، وبرز ذلك بشكل واضح، على مستوى ثوابت سياستها الخارجية في الشرق الأوسط التي كانت قائمة على ما كان يسمى بالسياسة العربية لفرنسا تجاه الصراع العربي -»الإسرائيلي»، وعلى مستوى الملفات السياسية العربية الأخرى، في سوريا والعراق وليبيا، حيث ما زالت تراهن باريس على الأقليات العرقية على حساب وحدة الدولة الوطنية في هذه المناطق، وتجلت تفاصيل هذه السياسة مع قيام باريس بتزويد أمازيغ ليبيا بالأسلحة في جبل نفوسة مع بداية التمرد ضد نظام القذافي، وبتقديمها للدعم السياسي والعسكري للأكراد في العراق وسوريا؛ ولعلها تعيش الآن أكثر مراحلها الحديثة ضعفاً، لكونها لم تتخل عن نزعتها الاستعمارية اختياراً، بل اضطراراً، بعد أن تلقت دروساً قاسية في مستعمراتها السابقة بداية من حربها الفاشلة في منطقة «الهند الصينية».

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"