دفاعاً عن الاقتصاد الحر

01:47 صباحا
قراءة 5 دقائق
ليس من المستغرب أن نقرأ ونسمع في الإعلام انتقادات لاذعة للنظام الاقتصادي الحر بسبب النتائج السلبية المحققة من أزمات وفساد وإفلاسات وغيرها . إذا راجعنا الماضي القريب، ركز الإعلام الدولي حتى المتخصص منه على أزمات النظام منها سقوط شركات التكنولوجيا والإنترنت، فضيحة "انرون"، سرقات "مادوف" المسجون، هبوط العقارات وسقوط البورصات في سنة 2008 وما بعد، وها هو المشهد يتكرر جزئياً اليوم في بعض الأسواق، ارتفاع البطالة بسبب طرد موظفين مع إفلاسات شركاتهم إضافة إلى ارتفاع فجوة الدخل بين الطبقات الشعبية . هل هذا هو النظام الاقتصادي الحر المعتمد اليوم في الأكثرية الساحقة من دول العالم؟ لماذا تحصل هذه الخضات الخطيرة التي تصيب الفقراء كما الأغنياء؟ لماذا تعتمد الدول هذا النظام إذا كانت سلبياته كبيرة وخطيرة بهذا الشكل؟ هل تبقى إيجابياته أكبر من سلبياته بالرغم من الكوارث التي حصلت والتي من المرجح أن تتكرر؟ ما هي الجاذبية الحقيقية لهذا النظام؟ لماذا يسيطر هذا النظام على قواعد الإنتاج والاستهلاك العالميين اليوم أكثر من أي وقت مضى؟
إذا قارنا مثلاً النتائج المحققة عبر العقود الماضية بين الاقتصاد الأمريكي الأكثر حرية والاقتصاد الأوروبي المقيد أكثر، نرى أن الأمريكيين نجحوا عموماً أكثر في النمو ومستوى المعيشة وتنويع الإنتاج بالرغم من الأزمات القاسية التي أصابت بلادهم . الأنظمة الأوروبية سخية أكثر في رعايتها للمواطن والعاطل عن العمل، لكنها في نفس الوقت تقيد الشركات كثيراً في أنظمتها وقواعدها وإجراءاتها فيما يخص العمل والاستثمار والضرائب وغيرها . من ناحية أخرى، وبالرغم من أن الإطار الذي يحيط بالنظام الاقتصادي الحر ليس جامداً وقاسياً، إلا أنه من المؤكد أن النظام بحد ذاته لا يمكن أن يعالج كل المشاكل والمساوئ التي تنتج عنه بشكل فاعل ومرض . من أين تأتي هذه المساوئ وما هي مصادرها الحقيقية؟ هل المسؤول هو النظام أم المواطن أي الإنسان الذي يعمل داخله؟ معظم مساوئ النظام ناتجة عن الطبيعة الإنسانية لأقلية جشعة تمارس الرشوة والفساد لتحقيق نتائج مالية كبيرة سريعة على حساب المجتمع والاقتصاد والأخلاق . في الحقيقة تكمن أساس المشكلة ليس في النظام نفسه وإنما للأسف في وجود أقلية جشعة غير أخلاقية تسيء إلى الجميع وتكون موجودة في كل أنواع الأنظمة وليس الرأسمالي فقط .
تكمن المشكلة الثانية في أن قواعد النظام جامدة أي مكتوبة لتغطي حالات عامة عديدة وليس فردية . لا يمكن تغيير القوانين والقواعد كل يوم، لكن الأسواق تتغير كل دقيقة بل كل ثانية ما يسمح للراغبين بخرق النظام بالنجاح بأعمالهم على حساب المجتمع والاقتصاد . يضع مجلس النواب القوانين وتقوم الحكومات بوضع القواعد والإجراءات، وتحتاج هذه المؤسسات الدستورية إلى الكثير من الوقت حتى تشعر بضرورة التغيير بل لتقرر هوية واتجاه التعديلات المطلوبة . من ناحية أخرى، تنجح القواعد والإجراءات والقوانين إذا استطاعت تقريب المصالح الشخصية من العامة . بمعنى آخر تكون القواعد مفيدة اجتماعياً وهذا هو المطلوب أصلاً وراء كل قاعدة، إذا استطاعت تقريب التكلفة الخاصة من العامة . مثلاً، مقارنة حجم الجباية الضرائبية لتمويل الشرطة أو أجهزة الأمن بنتائج الجرائم التي تحصل إذا لم يتم هذا التمويل . إذا لم تتم هذه المقارنة، لن يقتنع المواطنون بجدواها بل سيحاول حكماً دافعو الضرائب التهرب من تسديدها بكافة الوسائل القانونية أو الممكنة .
هنالك حقائق مهمة يجب التنبه إليها عند معالجة واقع النظام الاقتصادي الحر:
أولاً: كلما زادت القيود وتدخل القطاع العام أكثر في الاقتصاد، تعرقلت عملية العرض والطلب الحرة التي يسميها علم الاقتصاد "قانون العرض والطلب" . كلما زادت القيود، تعثر النمو وارتفعت البطالة خاصة الهيكلية منها التي تصعب معالجتها .
ثانياً: نجح النظام الاقتصادي الحر بتفوق مقارنة مع البدائل أي الشيوعية والديكتاتورية والدينية المتطرفة بشكل خاص التي تقيد الحريات حتى لو استطاعت تاريخياً تحقيق نسب نمو عالية في بعض الأحيان . ما هي جدوى النمو إذا ترافقت مع قمع لحقوق الإنسان، وهذا ما مارسته الشيوعية والفاشية في الدول التي طبقت فيها؟ مشكلة الأنظمة الشمولية أنها تفرض نظرة واحدة للواقع والمستقبل يستحيل على الفرد معارضتها أو الخروج عنها . أحياناً تكون هذه النظرة خيالية تفرض على الجميع بحيث يجب اعتبارها النظرة الوحيدة الحقيقية بل الفاضلة . تترافق مع هذه النظرة وجود قوة أمنية تفرضها على الجميع . في الواقع لم تستطع هذه الأنظمة عبر العقود الطويلة المتتالية التفوق على النظام الاقتصادي الحر . وإذا استطاعت لفترات قصيرة، فكانت على حساب الحريات الشخصية . حتى الصين الشيوعية اعتمدت النظام الاقتصادي الحر، علماً أن نموها القوي أتى من انتقال ركائز الاقتصاد من الزراعة إلى الصناعة أي من القطاعات ذات الإنتاجية المنخفضة إلى الأخرى ذات الإنتاجية العالية . عندما ينتهي هذا التحول ستنخفض أكثر نسبة النمو .
ثالثاً: هنالك مزايا قوية ثلاث للنظام الاقتصادي الحر هي محافظته على الديمقراطية والحريات الشخصية إضافة إلى تحقيق النمو . يتأقلم النظام مع الثقافة والتاريخ والعقلية إذ إن ما يعتمد في السويد مثلاً غير الذي يطبق في الولايات المتحدة أو في أستراليا وبريطانيا وغيرها . أما الميزة الثالثة فتكمن في إمكانية معالجة سوء توزع الدخل ضمن الديمقراطية عبر نظام ضرائبي ونسب مقبولة لا تقتل المصدر وتعالج أوجاع الضعفاء .
رابعاً: هنالك العديد من قيادات دول اليوم ما زال يعتقد أن تحقيق العدالة الاجتماعية يتوقف على فرض قيود على رأس المال وعلى حرية النظام الاقتصادي . يقول "جون لوك" إن العمل الجماعي هو الجواب الفاعل للمشاكل الاجتماعية بحيث يتم تصحيح خلل الأسواق عبر الاقتراع الذي يؤدي إلى التوزيع الأفضل للدخل وإلى الرقابة العادلة .
خامساً: مشكلة الرقابة القاسية أنها تشجع البعض على مخالفتها لغاية الربح والاستفادة الشخصية . كلما كانت الرقابة صارمة أصبحت الاستفادة المحتلمة من مخالفتها أكبر . فالمصارف العالمية الكبيرة خالفت أكثر عندما أصبحت رقابة الدولة عليها أقسى، وعندما قررت المصارف المركزية منع المصارف الكبيرة من الإفلاس أضرت بالصغيرة والمتوسطة . مشكلة النظام الاقتصادي الحر ليست في المبادئ وإنما في ممارسة البعض بصورة غير أخلاقية .
سادساً: من المزايا الأساسية للنظام الحر رعايته للإبداع بحيث يستفيد المبدعون من أعمالهم . فالاستثمار في الأفكار الجديدة هو من الركائز الأساسية للنظام . يقول "ملتزر" إن "النظام الرأسمالي من دون فشل" هو ك "الدين من دون خطايا" وهذا مستحيل وغير إنساني .

د . لويس حبيقة

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"