سباق الابتكار في لعبة الملكة الحمراء

02:05 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. عبد العظيم محمود حنفي *

تشجيع رياديي الأعمال المبتكرين على إنشاء مشاريع لا يكفي وحده لو أردنا لاقتصادات ريادة الأعمال أن تستمر في النمو، فمن المهم أن يتم تحفيزهم على الاستمرار في الابتكار حتى لا يتجهوا إلى استغلال اللوائح والقوانين؛ لحماية أنفسهم من المنافسين، خاصة في مجالات التكنولوجيا؛ التي يمكن أن تغير المشهد التنافسي بشكل جذري.
هذا أحد الشروط المهمة للنمو في القمة، فينبغي أن يكون الهدف ضمان أن يعدو الفائزون في سباق المنافسة بأسرع ما يستطيعون؛ حتى يحافظوا على موقعهم، وأن تضمن اقتصادات ريادة الأعمال أن تظل مشاريعهم منخرطة في «لعبة الملكة الحمراء»، التي يعتمد نجاح اللاعب فيها على قدرته على مجاراة جهود أو مستويات إنفاق المنافسين، أو تخطيها، فيدفع الكل لرفع الرهان. فإذا غاب هذا النوع من التنافس، اكتفى الفائزون بما حققوه، ولو حدث ذلك؛ لتباطأ الابتكار أو ربما توقف، وكذلك الحال مع النمو.
ربما تفيدنا هنا المقارنة مع سباق التسلح العسكري، ففي العصور الوسطى كان كل ملك يجبر على الدخول في سباق تسلح يزيد فيه من قدراته بشكل مستمر، في ظل ارتفاع التكاليف الدائم؛ جرّاء الابتكارات. فقد حلت القلاع المشيدة من الحجارة محل القلاع الخشبية، مما رفع كلفة البناء؛ بل وكلفة الحصار أيضاً. ثم جاء البارود والمدافع في أواسط القرن الرابع عشر؛ ليزيدا من كلفة التحصينات. كذلك أدت المستجدات الاجتماعية - السياسية بالملوك إلى أن يصبحوا أقل اعتماداً على أمراء الإقطاع؛ لتزويد جيوشهم بالرجال، مما أجبر الملوك على دفع رواتب الجند، الذين كانوا في كثير من الأحيان فرقاً مرتزقة، فزاد ذلك بشكل كبير من النفقات الملكية.
النتيجة المتوقعة للعبة الملكة الحمراء العسكرية هذه هي العجز الخطر في الأموال الذي كان يعانيه الملوك في جل الأحيان، فكلما استطاعوا أن ينجحوا بشق الأنفس في مشروع عسكري لا يعوقه إلا القليل من المعوقات المالية، أفضى هذا النجاح إلى رفع درجة سباق التسلح درجة أخرى، فتفضي تلك الطبيعة المتصاعدة «للعبة» إلى أن يصبح كل مبلغ كافيا اليوم، أقل بكثير من المطلوب غداً. وهكذا كان الملوك يعانون بشكل دائم نقص التمويل، مثقلين بالديون، غير قادرين على العثور على مقرض راغب في إقراضهم.
لحسن الحظ، جاءت النهاية السعيدة والسلمية لقصة الملكة الحمراء العسكرية هذه، فقد كان من نتائج سعي الملوك المستمر للحصول على المال أنهم وجدوا أنفسهم مجبرين على الاعتراف بحقوق الأفراد. وقد بدأت تلك العملية في إنجلترا ثم وصلت إلى الولايات المتحدة، وانتشرت فيها ثم إلى الكثير من بقاع أوروبا.
كانت عملية تدريجية بكل تأكيد. ففي البداية كفلت حقوق كبار رجال الدولة (أقل من عشر إيرلات - الإيرل، لقب إنجليزي - وأقل من مئة بارون في إنجلترا عندما ظهر البرلمان فيها) ثم إلى البلدات والعامة (الطبقة الوسطى العليا والفرسان، وملاك الأراضي، وأثرياء سكان البلدات).
بل إن بعض الملوك شعروا بضرورة الاتجاه إلى التجارة بدلاً من الاعتماد على الضرائب وغنائم الحرب في التمويل، وهو ما أكسب النشاط التجاري - نشاط ريادية الأعمال في واقع الأمر- احتراماً في عيون أعضاء طبقة النبلاء في إنجلترا. ساعد كل ذلك على وضع أسس ما سيصبح في المستقبل اقتصاد السوق الحرة، بما صاحبته من إنتاجية ملحوظة ومعدلات نمو قياسية. ويذهب البعض إلى أن تطور حكم القانون - الذي سبق، تاريخياً، تطور الانتخاب الديمقراطي للممثلين- كان المساهمة الأهم في ميلاد رأسمالية ريادية الأعمال، على أن حكم القانون لا يضمن وحده استمرار دور سيناريو لعبة الملكة الحمراء في الاقتصادات الحديثة، خاصة أن هذا السيناريو ليس له أن يتحقق من دون وجود شركات كبيرة مستقرة تعمل بالتوازي مع مؤسسات ريادية الأعمال الجديدة، الأقرب لأن تكون الفاعل الأساسي في التغيير الاقتصادي الحقيقي.

* أكاديمي مصري
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​كاتب مصري - أستاذ للعلوم السياسية والاقتصادية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"