في ضرورة وجود النقد

04:05 صباحا
قراءة 5 دقائق
هنالك موجة كلام عالمية مرتفعة ضد النقد، مرتكزة على دوره في تسهيل عمليات الفساد، والإرهاب والتهرب الضريبي، والأسواق السوداء بشكل عام. هل النقد لعنة أم هو ضرورة؟ هل هنالك بديل عن النقد المعدني والورقي؟ هل المبررات لإلغاء النقد أو تخفيف دوره كافية ومقنعة؟ هل يمكن الاستغناء عن فوائد النقد المسهل لعمليات التبادل التجاري؟ أسئلة كبرى يتم تداولها عالمياً في وقت تنشط فيه كل الجهود لرفع الإيرادات المالية للدول، ولمحاربة الإرهاب، نتيجة الحذر الكبير من عمليات مشابهة لما حصل في فرنسا وبريطانيا. هل إلغاء النقد يساعد فعلاً في ضرب كل العمليات غير الشرعية المستمرة، أم أن إلغاؤه سيضر بالتجارة؟ هل إلغاؤه يعرقل الحياة العادية دون أن يكون له تأثير يذكر على الفساد والإرهاب؟ لم تعد ترتبط هذه العمليات الأخيرة بالنقد كالسابق، بل أصبحت أكثر تطوراً وتشعّباً، ومرتكزة على تقنيات عالية جداً؟ الحقيقة أن استعمال النقد خفّ، خاصة في الاقتصادات المتطورة، لكنه ما زال موجوداً لأن الحاجة إليه ما زالت كبيرة.
في الولايات المتحدة مثلاً تبلغ قيمة النقد المتداول 1,4 ألف مليار دولار، أو 4200 دولار لكل أمريكي، 80% منه بأوراق فئة 100 دولار. عشرة كيلوجرامات من أوراق فئة 100 دولار تشكل قيمة مليون دولار؛ أي يسهل نقلها عبر أي حقيبة يد.
يقول الاقتصادي «كينيث روجوف» في كتابه «لعنة النقد»، إن وجود النقد يقف في وجه السياسة النقدية التي لا تستطيع تخفيض الفوائد أكثر لتحفيز النمو، خوفاً من أن ينتقل المستثمرون من شراء سندات الخزينة إلى الاحتفاظ بكميات أكبر من النقد. وجود النقد خاصة الأوراق الكبيرة يقف في وجه السياسات الهادفة إلى تسريع عمليات الإنقاذ، خاصة بعد أزمة «الركود الكبير» منذ سنة 2008.
هنالك موجة عالمية ترغب في إلغاء الأوراق الورقية الكبيرة والإبقاء على الصغيرة؛ أي ربما أوراق 10 دولارات وما دون، مما يمنع عملياً استعمال النقد لشراء السلع أو الخدمات مرتفعة السعر، ويبقيه للحاجات الاستهلاكية الصغيرة. يقول بعض الاقتصاديين ك«سيلفيو جيسيلز»، إنه ربما تُبقي المصارف المركزية على جميع الأوراق النقدية، مع تحديد زمن استعمال للأوراق الكبيرة، مما يمنع عملياً الاحتفاظ بها لمدة طويلة، وبالتالي يتوجه المواطنون تلقائياً إلى الأوراق الصغيرة.
هنالك فوائد كبيرة لاستعمال النقد أهمها السهولة والحفاظ على الحرمة الشخصية، التي تُلغيها بطاقات الائتمان أو الشيكات. كيف يمكن لمجتمع أن يوازي بين المرونة النقدية والسرية الشخصية من جهة، وضرورة محاربة العمليات غير الشرعية من جهة أخرى؟ في التقديرات الدولية لحجم الاقتصاد غير الشرعي من الناتج المحلي الرسمي، يقدر ب 29% في تركيا، و25% في ألمانيا، و22% في إيطاليا، و20% في إسبانيا، و9% في اليابان، و7% في الولايات المتحدة. هذه أرقام كبيرة تحتاج إليها الدول للإيرادات ولمكافحة كل النشاطات المضرة. هل إلغاء النقد يلغي هذه النشاطات؟ هل التخلي عن فوائد النقد يعزز الشرعية ولا يعرقل الحركة الاقتصادية، ويحارب كافة الجرائم المنتشرة عالمياً؟ هل من الممكن أن تتخلى دولة ما وحدها عن النقد، أم هنالك ضرورة للتخلي عالمياً عن هذه الوسيلة التي تبقى مهمة جداً في الدول النامية والناشئة؟
التجارب العالمية للتخلي عن النقد ليست عديدة، لكن أهمها ما حصل في الهند وبدأ منذ نهاية السنة الماضية، والتي تحمل دروساً في غاية الأهمية للعالم أجمع. تشير إحصائيات الأمم المتحدة إلى أن عدد سكان الهند سيبلغ 1,7 مليار شخص سنة 2050، مقابل 1,35 مليار للصين. نما الاقتصاد الهندي سنوياً بمعدل 4,5% خلال العقود الأربعة الماضية. ونسبة الدخل الفردي الهندي من الأميركي ارتفعت من 5% إلى 11% خلال العقود الأربعة. تبقى هنالك تحديات كبرى للحكومات الهندية المستقبلية، أهمها في التعليم والبيئة، والعلاقات الاقتصادية الخارجية.
في نوفمبر 2016 وبشكل مفاجئ؛ أي دون أي تحضير إعلامي في مجتمع يعتمد على النقد، قرر رئيس الوزراء الهندي «مودي» إلغاء الأوراق الكبيرة من النقد؛ أي أوراق 500 وألف روبيز. طلب من الذين يملكونها أن يضعوها في حساباتهم المصرفية قبل آخر السنة حيث ستلغى. أي شخص يرد إلى المصرف أكثر مما يوازي 3700 دولار يجب أن يبرر لماذا احتفظ بهذا القدر من النقد، ويثبت أنه يدفع الضرائب أو يخضع لعقوبات تصل إلى 200% من المبلغ غير المسدد. هرع الهنود إلى شراء الذهب للتخلي عن النقد، مما سبب ارتفاعاً كبيراً في أسعار المعدن الأصفر. المعلوم أن 99% من الهنود يتهرّبون من الضرائب؛ إذ يعملون في الاقتصاد غير الشرعي.
تشكل هذه الأوراق 86% من قيمة النقد المتداول؛ أي قرار موجع جداً لمجتمع يعتمد بشكل أساسي على النقد، أي 78% من التبادل التجاري العادي. تهدف سياسة «مودي» إلى مكافحة الفساد والتزوير النقدي، كما تهدف إلى مواجهة كل العمليات الإرهابية وغير الشرعية، وإلى ضرب التهرّب الضريبي المرتكز على العمليات النقدية. هنالك دراسات عدة قيّمت النتائج المتوقعة للسياسة النقدية الجديدة؛ أي انخفاض للناتج المحلي بين 2 و4%. لم يحدث أي شيء من هذا القبيل؛ بل كانت النتائج مفاجئة ومعاكسة؛ أي ارتفاع الناتج في الفصل الأخير من 2016 حوالي 7%، وارتفاع مؤشر الصناعة 2,7% في الشهر الأول من 2017، بحيث تبقى الهند الاقتصاد الأسرع نمواً في العالم. وارتفعت البورصات الهندية وكانت النتائج السياسية إيجابية؛ إذ إن المواطن الهندي قَبِل هذه السياسة كوسيلة فاعلة لمكافحة الفساد. كان الانطباع السائد أن الحكومة تهتم بالمواطن العادي والفقير، وتريد فعلاً ضرب المجرمين. يريد الشعب الهندي نمواً قوياً أخلاقياً وليس أي نمو.
* ما هي النتائج الأخرى للسياسة النقدية الهندية؟
أولاً: ما زال النقد موجوداً في الفئات الصغيرة، وبالتالي مصالح المواطن الهندي العادي؛ أي الفقير، ما زالت محترمة ومؤمنة. فالسحب النقدي ارتفع 0,6% بين مارس/آذار 2016، ومارس/آذار 2017. التعلق بالنقد ما زال قوياً.
ثانياً: ارتفعت الإيرادات الضريبية خلال شهر شباط الماضي 10%، نسبة لفبراير/شباط 2016، وهذه نتيجة جيدة ومميزة.
ثالثاً: وضعت الحكومة إجراءات جديدة تتلخص في المساعدات والحوافز للشركات، التي تبتعد عن النقد في تبادلاتها؛ أي في الدفع والقبض.
} ما هي مساوئ الاقتصادات التي تستغني عن النقد، أو أقلّه الأوراق الكبيرة منه؟
أولاً: تعطي قوة وأهمية أكبر للمصارف المركزية والتجارية، والمؤسسات المالية، وهي التي لم تؤد دائماً دوراً إيجابياً لمصلحة الشعب. من كان مسؤولاً عن الأزمات السابقة الكبيرة، وآخرها في 2008؟ أليست المصارف والسلطات النقدية؟ هل هنالك مصلحة في تقويتها أكثر؟
ثانياً: يعاقب الاقتصاد الخالي من النقد الفقراء؛ إذ إن للأغنياء دائماً طرقاً متطورة للتهرب من الداخل أو الخارج. هل هدف التخلي عن النقد معاقبة الفقراء وسكان المناطق الريفية والنائية، الذين لا قدرة ولا معرفة لهم على استعمال التقنيات الحديثة؟
ثالثاً: النقد هو هوية الاقتصاد والدولة. النقد هو الحرية بحدّ ذاتها. النقد هو الخصوصية في التبادل التجاري والأمان المجتمعي.
في رأينا إلغاء النقد حتى الأوراق الكبيرة؛ أي ما يوازي 100 دولار، يعاقب الفقراء ويسرق حريّتهم، دون أن يؤدي إلى النتيجة المرجوة، وهي ضرب الفساد والعمليات غير الشرعية. في رأينا أن التجربة الهندية وإن لم تكن كارثية حتى اليوم، لن تعطي الثمار المرجوة، وسيضطر الحكام المقبلون إلى إعادة ما أخذوه معتمدين على تقنيات جيدة في إصدار أوراق لا يمكن تزويرها. هذا لا يعني أن الرقابة الرسمية غير مجدية؛ بل على العكس تماماً، لكن ضمن تقنيات متطورة تحترم الحريات وتؤدي إلى النتائج المطلوبة.
لويس حبيقة
* خبير اقتصادي لبناني
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"