الاستهلاك.. حرية وتطور

01:14 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. لويس حبيقة*
الاستهلاك مرتبط بشكل وثيق بالثقافة والمجتمع وطبيعة الإنسان ما يميزه بشكل دقيق وواضح. تحسين الاستهلاك، منه القدرة على استبدال السلع القديمة بدل إصلاحها، يشكل دافعاً للعمل ويرفع الإنتاجية.

لا شيء يمكن أن يصف تطور المجتمعات أكثر من الاستهلاك بقيمته وتوزعه. لا شيء يمكن أن يميز المجتمعات بعضها عن بعض أكثر من الاستهلاك. هوية المجتمعات تظهر في استهلاكها ويمكن وصفها بالتالي بالتقليدية أو المتطورة. في الحقيقة يعمل الإنسان في حياته ليس فقط بسبب حب العمل والإنتاج والتقدم وإنما خاصة لتحسين وضعه المعيشي أي السلة الاستهلاكية التي يرغب ويستطيع شراءها. الاستهلاك ليس موضوعاً اقتصادياً فقط إنما يشير إلى الحريات الاستهلاكية التي تضيق أو تتوسع تبعاً للمجتمعات المختلفة. يشير الاستهلاك إلى مدى تطور المجتمعات عبر الزمن ضمن الأطر القانونية والإجرائية والاقتصادية المتوافرة. لا شك في أن الاستهلاك يميز المجتمعات حتى داخل الدولة الواحدة حيث تختلف طبيعته تبعاً للجغرافيا والثقافة والطقس والتقاليد وغيرها.

الاستهلاك مرتبط بشكل وثيق بالثقافة والمجتمع وطبيعة الإنسان ما يميزه بشكل دقيق وواضح. تحسين الاستهلاك، منه القدرة على استبدال السلع القديمة بدل إصلاحها، يشكل دافعاً للعمل ويرفع الإنتاجية. ليس هنالك مجتمع لم تحصل داخله ثورة استهلاكية على مر الزمن غيرت معالم أسواقه وتطور حضارته. يتطور الاستهلاك نتيجة تغير أوضاع الداخل ونتيجة تغير العالم الخارجي المترابط حكماً بفضل النقل والاتصالات ووسائل التواصل الاجتماعي. هنالك دور كبير للإعلام في نقل تجارب المجتمعات عبر الدول والقارات وكم نتأثر به وبالإعلان الذي بلغ درجة كبرى من التطور يجعله يؤثر في كل منا.

تبلغ نسبة الإنفاق الإعلاني من الناتج 2,5% في الولايات المتحدة مما يشير إلى أهمية هذا القطاع المؤثر في كل القطاعات الأخرى. تبلغ قيمة الإنفاق الإعلاني لكل فرد سنوياً 240 دولاراً في الولايات المتحدة، 200 دولار في سويسرا، 120 دولاراً في بريطانيا، 100 دولار في اليابان، 75 دولاراً في إيطاليا و25 دولاراً في الأرجنتين. تغير المحتوى الإعلاني مع الوقت كما طريقة توجيه الرسائل ونوعية السلع أو الخدمة مما يجعله قطاعاً فريداً يمزج بين الفن والأدب والتقنيات المرتفعة. تأثير الإعلان في الطلب كبير ولم تصل تقنيات الإعلان والدعاية يوماً إلى درجة الإبداع التي وصلت إليها اليوم. هنالك مجتمعات تأخذ بالكثير مما تسمعه وأخرى تكون انتقائية أكثر وذلك تبعاً للأوضاع والحريات المتوافرة المختلفة. تغير طبيعة السلع والخدمات نتيجة التقنيات والأذواق المختلفة يؤثر كثيراً في المستهلكين والسلة التي يختارونها.

في قطاع السيارات مثلاً ومن سنة إلى أخرى نجد أحياناً تغيرات كبيرة ليس في الشكل والمحتوى فقط وإنما في المزايا الميكانيكية للسيارة مما يؤثر في الطلب الاستهلاكي للشباب والشابات. تطور مزايا السلع الاستهلاكية يجعل الإنسان يشعر بالتقصير في تلبية الحاجات المختلفة، لكنه يدفعه في نفس الوقت إلى العمل الجدي لتحسين أوضاعه المعيشية عبر العمل أكثر وأفضل. في قطاع الملبوسات وتغير الأذواق، الأوضاع مماثلة وما نشهده السنة ربما يختلف كثيراً عما شاهدناه السنة الماضية خاصة في الملابس النسائية التي تجذب ميزانيات سنوية أعلى. هنالك خصائص للقطاع الاستهلاكي العالمي نعرضها كما يلي:

أولاً: التأثير الأمريكي الكبير في كل المجتمعات بدأ من الطعام وطرق تحضيره إلى الخدمات الصحية والقانونية وغيرها وصولاً إلى طرق وحجم الإنفاق الإعلامي والإعلاني الكبير. من منا لا يشاهد الأفلام الأمريكية التي تؤثر في حياتنا في إيجابياتها وسلبياتها؟ هنالك من يقول إن الأفلام الأمريكية دمرت الحضارات الوطنية كما اللغات. يحاول الفرنسيون مثلاً جاهدين أن يبقوا على حيوية لغتهم ونجحوا كثيراً، لكن المقاومة تبقى دائمة ولا يمكن التراخي بشأنها. هنالك حضارات أخرى خسرت نفسها وتوجهت كلياً نحو طريقة الاستهلاك الأمريكي وما يتبعها من التأثير الحضاري واللغوي والاجتماعي والثقافي وغيرها.

من منا لا يأكل «الهامبرغر» و«البيتزا» وغيرها التي طورتها المطاعم الأمريكية بشكل كبير وإن نشأت أحياناً في أماكن أخرى؟ من منا لا يتأثر بالإنتاج الأمريكي في كل شيء بداية من الاقتصاد إلى الطب والعلوم والآداب وغيرها؟ من لا يتأثر بالموسيقى الأمريكية الرائدة على مر العصور وهنالك قدرة إنتاجية وإبداعية فريدة لا بد من التنويه والإعجاب بها؟ الموسيقى الأمريكية عابرة للقارات وتقرب المجتمعات ليس اليوم وإنما منذ عقود. من هي العائلات التي لم تتأثر بأفلام «ديزني» النوعية التي قربت الأذواق عند الأطفال. التأثير الأمريكي فينا جميعاً كبير جداً ومن الصعب مقاومته حتى مقاومة ما لا نرغب في استيراده إلى مجتمعاتنا.

ثانياً: التأثير الدولي القوي العابر للقارات الذي ينشر طرق ومحتوى استهلاك أقوى من العادات الوطنية. هذا التأثير ربما ينبع من دول عادية أو فقيرة وينتشر إلى الدول الكبيرة بما فيها أمريكا. هنالك مأكولات انتشرت من منطقتنا إلى كل الربوع العالمية مثلاً «الحمص» و«التبولي» و«البقلاوة» و«الفلافل» التي نجدها أينما ذهبنا ليس فقط في المحال ذات الأصول الشرق أوسطية وإنما في كل المتاجر والمطاعم والملاهي. أنتج هذا الترابط الاستهلاكي الدولي ترابطاً أيضاً في المطالب الشعبية منها زيادة الأجور وتحسين المنافع والحقوق وغيرها. توحيد الاستهلاك يفرض أيضاً توحيد الدخل وهذا في غاية الصعوبة مما يجعل المواطن العادي يغضب ويشعر أن حقوقه مسلوبة. توحيد الاستهلاك دون توحيد القدرة الشرائية يؤدي في العديد من الأحيان إلى عدم الاستقرار والشعور بالغضب كما يحصل إلى حد بعيد في أوروبا وفرنسا مع «السترات الصفراء» تحديداً.

ثالثاً: حرية الاستهلاك هي في غاية الأهمية. يجب على المستهلك أن يختار ما يشاء وبالتالي أن تكون الخيارات واسعة أمامه في الأسواق. لا شك في أن للبناني الأصل «رالف نادر» دوراً كبيراً في فرض حقوق المستهلك على الشركات والحكومات وله كتاب جديد اليوم في الأسواق يؤكد مجدداً على هذه الحقوق الكبيرة. يؤكد «نادر» دائماً على سيادة المستهلكين وحقوقهم في طلب الأفضل بالأسعار الأدنى، فسبب ثورة استهلاكية عالمية بدأت منذ الستينات نتيجة صراعه مع «شركة جنرال موتورز» وامتدت إلى كل القطاعات والدول والأزمان.

رابعاً: لا شك في أن توافر السلع الاستهلاكية المنزلية كالبرادات والغسالات والمايكرويف وغيرها غيرت المجتمعات وسمحت للرجال وخاصة للنساء بتوفير أوقات أطول للحاجات المهمة جداً كتربية الأطفال، كما وفرت إمكانية العمل من المنزل عبر الآلات والوسائل التقنية الحديثة. توافر هذه السلع لم يؤثر فقط في الاستهلاك، إنما أيضاً في إنتاجية العمل والقدرة على المساهمة في تطور المجتمعات من داخل المنزل. سمحت هذه السلع للسيدات بالعمل من المنزل أي بالمساهمة في رفع دخل الأسرة لأن تكلفة الحياة الحديثة تتطلب عمل الرجل والمرأة لمحاولة تأمين تكلفة المعيشة والتعليم والصحة والنقل وغيرها.

لا شك في أن الاستهلاك يعكس الثروة والتطور في المجتمعات. تطور الاستهلاك في قيمته ونوعيته يؤدي مع الوقت إلى نوع من الاستقرار والسعادة داخل الأفراد والمجتمعات. لم تكن الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي فقط عسكرية وسياسية، وإنما أيضاً استهلاكية حيت لم ينفجر الاتحاد السوفييتي إلا بعد أن شعر المواطن بالتخلف الاستهلاكي الذي يفصله عن الغرب. ظهر هذا الفارق مع الوقت بفضل الإعلام وطرق التواصل بين المجتمعات. لم يصبح الاستهلاك مزدهراً في المجتمعات المتطورة إلا بعد أن انتشرت وسائل التمويل السهلة عبر القروض الميسرة وبطاقات الائتمان لشراء السلع الأساسية من برادات وغسالات وغيرها والتي كان لأمريكا الفضل الأكبر في تطوير تقنياتها العملية.

* أكاديمي لبناني

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"