النظام الصحي واقتصاد السوق

00:19 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. لويس حبيقة

لا يوجد نظامان صحيان متشابهان.. هنالك ركائز أساسية يجب معالجتها أو الاتفاق عليها عند بناء نظام صحي وطني مرتكز على تعاون ومشاركة القطاعين العام والخاص
هل يمكن اعتماد نظام السوق في القطاع الصحي؟ يطرح الموضوع اليوم مع محاولة إلغاء النظام الصحي الأمريكي المعروف ب«أوباما كير» الذي يعترض عليه الرئيس ترامب بسبب تكلفته العالية ويريد استبداله بنظام آخر يدخل عامل السوق إلى القطاع كي ينتج عنه السعر المتوازن الأفضل. يريد «ترامب» إلغاء نظام أوباما في وقت لا تتضح له البدائل المناسبة. يريد أن يسمح للمواطن الأمريكي باختيار عنايته الصحية وشركات التأمين، أي إدخال المنافسة إلى القطاع مما يحسن نظرياً من الخدمة ويخفض التكلفة. محاولات «ترامب» حتى اليوم باءت بالفشل لغياب البديل المناسب ولعدم رغبة مجلسي الشيوخ والنواب ترك ملايين الأمريكيين دون أي غطاء صحي.
السؤال الرئيسي هو هل يملك المواطن المعلومات الكافية لاختيار مقدم الخدمة الصحية له؟ ليس مؤكداً إذ إن المواطن العادي لا يتمتع بالكفاءة العلمية لاختيار الأنسب. نظام السوق ينشر كل المعلومات للجميع لاختيار الأفضل، وهذا ليس متوافراً عموماً في الصحة. هنا تكمن جدوى تدخل القطاع العام لتغطية النواقص الموجودة في المعلومات والعلم والنوعية.
من الضروري أن نبدأ بتحديد معنى الرعاية الصحية. هل هي معالجة الأمراض وتجنب الوقوع في المرض أي العناية، أم أن الموضوع أكبر؟ تعرف منظمة الصحة العالمية الصحة الجيدة بالوضع المقبول من النواحي البدنية والعقلية والنفسية والروحية والثقافية كما الاجتماعية، وليس فقط غياب المرض أو وعدم جود إعاقة. فالصحة الجيدة هي نظام متكامل مترابط ينتج عنه إنسان جيد صحياً وعقلياً ومنتجاً.
كتب الاقتصادي الكبير «كينيث أررو» الحائز جائزة نوبل للاقتصاد لسنة 1972 دراسة تقول إن أسواق الصحة مختلفة جداً عن الأسواق الأخرى. إن الحاجة إلى الصحة غير معروفة أو مفاجئة أي مختلفة عن حاجة الإنسان إلى الطعام أو الثياب أو النزهة أو غيرها من الحاجات العادية. أما علاقة المواطن بالطبيب فهي فريدة من نوعها وترتكز على الثقة والاهتمام والعلاقة الجيدة المتجانسة. هنالك اختلاف كبير في المعلومات والعلم بين طالب الخدمة ومقدمها مما يمنع الوصول إلى النتيجة الفضلى كما يحصل في العديد من السلع والخدمات الأخرى. هذا يعني أنه ليس من الممكن لطالب الخدمة الصحية اتخاذ القرار المناسب خاصة وأنه يجهل التكلفة النهائية التي يمكن أن تكون أضعاف ما توقع.
ما هي خصائص الانفاق على الصحة ولماذا تميز الصحة دائماً عن غيرها من الخدمات؟ الانفاق الصحي مبني على الثقة شرط أن تكون في محلها. إذا غابت الثقة انهارت العلاقة بين المواطن والطبيب أو بين المواطن ومقدم الخدمات من مستشفى أو مستوصف أو عيادة أو غيرها.
أولا: عندما يأخذ الانسان قراراً بشأن الصحة، لا يملك عندها كل المعلومات عن أوضاعه. فربما تحصل مفاجآت وتكون التكلفة أعلى.
كما تؤخذ هذه القرارات عموماً من دون بحث عن النوعية والتكلفة. أي لا يقوم الإنسان بالتفتيش عن الخدمات الصحية الأدنى تكلفة والأعلى نوعية قبل أن يقوم بها كما يفعل بالنسبة للخدمات والسلع الأخرى.
ثانياً: عندما يسدد المواطن أو الجهة المعينة التكلفة، ليس بالسهولة مقارنة السعر بما قدم له. هل كانت كل الفحوص الطبية ضرورية؟ هل تمت استشارة الأطباء المتخصصين أو كانت هنالك أفضليات مبنية على الصداقات أو المعرفة الشخصية؟ هل تم تقديم أفضل الخدمات بأقصى السرعة الممكنة؟ من هي الجهات التي يمكن أن تبت بالموضوع؟ تكمن المشكلة أيضاً في أن التكلفة مرتبطة بالعلاجات والأدوية التي استعملت وليس بالنتائج. من الممكن أن تكون التكلفة مرتفعة ويموت المريض أو يخرج بصحة.
ليس هنالك نظامان صحيان متشابهان في النوعية والخصائص والشروط وخصوصاً في التمويل. هنالك ركائز أساسية يجب معالجتها أو الاتفاق عليها عند بناء نظام صحي وطني مرتكز على تعاون ومشاركة القطاعين العام والخاص:
أولاً: ما هي أهداف النظام الصحي؟ إدخال الجميع إليه وما هي الشروط؟ بل ما هي الخدمات التي تقدم مجاناً أو بمشاركة المستفيد أو على نفقة المريض؟ من يقدم الخدمات الصحية؟ القطاع العام أو الخاص أو سوية وكيف. هنالك خصائص مختلفة للأنظمة الصحية تبدأ من النظام الفرنسي إلى الأمريكي والكندي والبريطاني والكوبي إلى آخر الأشكال والألوان.
ثانياً: كيف سيتم التمويل؟ هل تأتي من الضرائب العامة أو من مشاركة المستفيد عندما يحصل على الخدمة أو من تبرعات المنظمات الخيرية العالمية والمحلية كما من تبرعات القطاع الخاص. في رأينا، لا بد من مشاركة المستفيد في جزء من التكلفة لمنع الهدر أو سوء الاستعمال أو الابتزاز أو غيرها من التصرفات التي تحصل عندما تكون السلعة أو الخدمة مجانية. في بريطانيا وكندا وأستراليا، تمول الصحة خاصة من الضرائب العامة على عكس فرنسا وألمانيا وسويسرا حيث يأتي معظم التمويل من الضرائب المتخصصة للقطاع. في الولايات المتحدة، يلعب القطاع الخاص وشركات التأمين كما المستفيد الدور التمويلي الأكبر مما يمنع عملياً الفقير من معالجة مشاكله الصحية. من هنا أتى نظام أوباما لإدخال الجميع إلى العناية الصحية.
ثالثاً: كيف يتم توزيع المخاطر لتخفيفها. تطور الصحة يخضع للتقلب ولا يمكن تنبؤ ما يمكن أن يحصل على الصعيدين الفردي كما العام. كيف يمكن مواجهة المخاطر أو تجميعها لتخفيفها بحيث تنخفض التكلفة ويتحضر المجتمع للمواجهة؟
في كل حال، إدخال نظام السوق إلى قطاع الصحة يرتكز على عاملين أساسيين سينتجان نجاحاً أو فشلاً في مشروع ترامب وهما:
أولاً: العامل الاقتصادي أي هل سيؤدي إدخال عمليات العرض والطلب الحرة إلى الصحة إلى خدمات أفضل وبتكلفة أدنى عما هو عليه اليوم؟ في تجربة تقديم خدمات «الليزر» الحرة للعيون، خفت التكلفة خلال 20 سنة من 2200 دولار لكل عين إلى 250 دولاراً وتحسنت الخدمة بسبب التكنولوجيا والعلم علماً أنها لا تغطى عموماً من قبل شركات التأمين.
ثانياً: العامل النفسي أي هل يرتاح المواطن إلى اتخاذ قرارات الصحة بنفسه أو يفضل نقلها إلى متخصصين يفهمون أكثر منه حتى لو تم الغش من وقت لآخر؟ نعيش للأسف في مجتمعات تفتقر إلى الثقة ويعمها القلق والخوف وبالتالي لا نريد المزيد منهما.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"