الخلاف مستمر حول وقائع ركود 2008

01:32 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. لويس حبيقة*
الجميع متفق على أن أزمة 2008 بدأت في القطاع العقاري الأمريكي وانتشرت بسبب حجم الاقتصاد الأمريكي وعمق المشكلة. شكل الركود الكبير «خضة» للاقتصاد الدولي الذي كان ينمو سنوياً بمعدل 3.5% وتراجع بأكثر من 1% في 2009.

بعد أكثر من عشر سنوات على «الركود الكبير»، لا يزال الخلاف مستمراً حول الأسباب وطرق المعالجة. إذا كنا نختلف كمتابعين بالنسبة إلى الأسباب، فكيف يمكن أن نتفق على العلاج والحل؟ من هو المسؤول أو من هم المسؤولون عن كارثة 2008 وهل كان يجب أن تحصل المحاسبة بجدية أكثر؛ منعاً للتكرار؟ نعلم جميعاً أن للنجاحات مئات الآباء والأمهات، أما السقوط فيبقى دائماً يتيماً؛ إذ يتهرب الجميع منه ومن المسؤولية. الهدف ليس فقط تفسير ما حدث، وإنما أخذ الدروس لتجنب تكرار الكوارث المالية والاقتصادية.

يخشى دائماً بعد الأزمات من أن تطبق السلطات حلولاً قاسية تعرقل النمو وتضر بركائز الاقتصاد على المدى البعيد؛ لذا دراسة الحلول مهمة جداً. تشير التجارب إلى أن السلطات في آسيا وأمريكا اللاتينية وروسيا وغيرها وضعت قوانين وقواعد وإجراءات قاسية جداً، لعدم معرفتها بالأسباب الحقيقية، وبالتالي أضرت بالاقتصادات، ومنعت عملياً نهوضها. المشكلة هي اعتماد علاجات خاطئة مرتكزة على دراسات مغلوطة تُعمّق الأزمات.

لم يتوقع أحد حصول أزمة 2008 بالشدة التي حصلت فيها. هل تعود أسباب السقوط إلى عوامل السوق العادية أي إلى جنون العرض والطلب؟ أم هنالك دوافع لجعل العرض والطلب يتحركان بشكل غير طبيعي حتى لا نقول إنه اصطناعي؟ هنالك أفكار متداولة نعرضها كما يلي:

أولاً: هل تكمن المشكلة في النظام الرأسمالي نفسه؟. هل تنتج الرأسمالية أزمات من داخلها؛ نتيجة قواعد العمل، التي أحدثت فجوات كبرى في الدخل والثروة؟ إذا كانت المشكلة مرتبطة بالنظام نفسه، تصبح المعالجة أدق بكثير؛ حيث يجب عندها إيجاد البدائل، التي لا تتوافر اليوم. الأنظمة الأخرى كالشيوعية والاشتراكية لم تعط النتائج الجيدة، والخلاف يدور اليوم واقعياً حول أي شكل من الرأسمالية يجب تطبيقه؟ هنالك فوارق مهمة بين الأنظمة الأمريكية والأوروبية والإسكندنافية لا يمكن تجاهلها. يقول جورج سوروس: «إنه منذ وصول ريجان وتاتشر إلى الحكم، أصبح اقتصاد السوق الفكر الأيديولوجي المسيطر عالمياً».

ثانياً: تهدف كل الحكومات إلى تحقيق النمو القوي مهما كانت الكُلفة، أي على حساب الحقوق والبيئة والعدالة والصحة. المهم تحقيق الربح من دون النظر إلى أوضاع الضحايا من فقراء وغيرهم. أنتج هذا الجشع، خسائر كبرى وأمراضاً حقيقية تكدست مع الوقت؛ لتضع المجتمعات كلها في خطر. ساد التفكير أن الأسواق المالية هي التي تنتج النمو الاقتصادي، وبالتالي خلقت كل الأدوات، التي تحقق الربح السريع، المرتكز على مخاطر كبرى. قال الاقتصادي مينسكي: إن الأسواق المالية تتعرض دائماً للمضاربات الدورية، التي تسبب في آخر المطاف أزمات كبيرة. وقال أيضاً: إن النقطة المفصلية هي عندما تخف السيولة في السوق، ويبدأ بيع الأصول، وبالتالي تتجه الأسعار نزولاً، ما يسبب الكارثة. هذا ما حصل في معظم الأزمات، وبالتالي الجميع يقرأ اليوم «مينسكي». بعد أزمة 2008 تغير التفكير وأصبح التركيز منذ ذلك الوقت على دور التكنولوجيا والإبداع والعلوم في خلق النمو وتطويره. الربح عبر الأسواق المالية أسهل وأسرع وأخطر؛ لكنه غير دائم. الربح عبر العلوم والتكنولوجيا أصعب ويعد شاقاً ومتواضعاً؛ لكنه دائم أو يطول أكثر لتأثيره على مصادر النمو.

ثالثاً: عندما حصلت الأزمات، وغاب النمو، وارتفعت البطالة، ماذا فعلت الحكومات؟ زادت الإنفاق العام؛ لمواجهة الخلل في السوق؛ ولتجنب حصول كارثة كما في 1929. ماذا كانت النتيجة؟ حدوث ارتفاع كبير في عجز الموازنات، وفي الدين العام؛ للتقليل من الخسائر الاقتصادية ومن الغضب الشعبي. بعده ولمعالجة الخلل المالي، قامت الحكومات بتطبيق سياسات تقشفية قاسية، أغضبت الجمهور، وسلبت بعض الحقوق، وسببت فوضى في المجتمعات، آخرها ما ظهر عبر «السترات الصفراء» في فرنسا وأوروبا عموماً.

ما العبر التي يمكن اتخاذها مما حصل؟ وهل تمت المعالجة بشكل يجعلنا نتأكد أن التكرار سيكون مستحيلاً؟ يرتكز الاطمئنان على الأمور التالية مجتمعة:

أولاً: هل تقدمت العلوم الاقتصادية بشكل يسمح للمواطن بالاطمئنان، مرتكزاً على البحوث والدروس التي حصلت؟ لا شك أن العلوم تطورت وتقدمت، إلا أن الاطمئنان الكلي هو في غير محله، خاصة وأن قسماً كبيراً من العلماء لا يزال يؤمن بنظريات لا تشير الوقائع إلى صحتها الأكيدة. في الاقتصاد هنالك نظريات متعددة يمكن أن تصح في ظروف معينة، وتخطئ في ظروف أخرى، منها نظريات «الأسواق الفاعلة» أو النظريات التي تربط الاقتصاد بعلم النفس أو الأعصاب أوغيرها. لا يمكن وصف أي نظرية من هذه النظريات بالخاطئة دائماً أو بالصحيحة دائماً، وهذه هي الصعوبة. كما أن التدريس في كليات الاقتصاد وإدارة الأعمال العالمية لا تزال نظرية عموماً، وبالتالي لا تؤهل الطالب بشكل كاف؛ لمواجهة الحقائق الاقتصادية وتغيرات الأسواق.

ثانياً: هنالك دور كبير للإعلام المتخصص عبر الصحف والإذاعات والوسائل الأخرى يمكن أن يكون إيجابياً أو العكس. في العديد من الأحيان كان الدور سلبياً أي شجع لأسباب غير بريئة، المستثمرين والمواطنين العاديين على التهور والمخاطرة غير المدروسة، كما دفعهم نحو الجشع والمغامرة في وقت ليسوا على استعداد (مالياً وعلمياً)؛ لمواجهة التحديات. من يضبط هذا الإعلام المتخصص وغير البريء؟ هو غير بريء؛ لأنه في بعض الأوقات يمثل مصالح معينة تهدف التي توجيه السوق باتجاه أو آخر. لا شك أن هنالك أزمة في الصحافة المتخصصة العالمية، وعلى القارئ أن يتنبه إلى الغاية ويطالع مصادر متعددة وإن كانت في العديد من الأحيان متناقضة.

ثالثاً: لا شك أن الدورات الاقتصادية تبقى موجودة وحية، ولا بد من التنبه لحصولها؛ حيث إن الكثير من الخاسرين اعتقدوا أن الصعود مستمر ولا نهاية له. حصل السقوط بشكل مفاجئ لهم، فخسروا الكثير. كلما طال النمو الإيجابي فإن احتمال السقوط يزداد، وهذا مهم ويجب التنبه له دائماً. من المؤشرات المخيفة: الفوائد المنخفضة التي تشجع دائماً على الاقتراض والاستثمار، وبالتالي ترفع المخاطر. الفوائد ارتفعت 4 مرات السنة الماضية على الدولار، ما يخفف من دافع المغامرة؛ لأنها تصبح مُكلفة أكثر.

رابعاً: هنالك دور كبير للسلطات الرسمية في تنبيه المواطن إلى المخاطر، وفي تطبيق القوانين بقساوة وعدالة على المخلين بقواعد السلامة. هدف العقوبات ليس فقط محاسبة الماضي وإنما خاصة زيادة سلامة المستقبل. تكمن المشكلة أيضاً في أن مؤسسات الرقابة تتأثر أحياناً بالسلطات السياسية، فتخفف من صرامتها لإرضاء السياسيين وهذا سيئ جداً. المطلوب أن تحصل على الحصانة الكافية؛ لمواجهة السياسيين تماماً كما يحصل في أمريكا بين المصرف المركزي وترامب.

* أكاديمي لبناني

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"