التحدي الاقتصادي أمام نظام طرابلس الجديد

03:23 صباحا
قراءة 3 دقائق

إزاء اختفاء المعسكر الشرقي ومعه الاقتصادات الموجهة، في تسعينات القرن الماضي، ومع تقدم الاسلام السياسي شعرت الأنظمة العربية، المولودة في رحم الايديولوجيات القومية والاجتماعية، بأن عليها العمل لاستعادة شعبيتها وشرعيتها المتهالكتين فعمدت إلى اعادة النظر في سياساتها الداخلية والخارجية بغية تكييفها مع الواقع الدولي الجديد .

فالنظام الليبي مثلاً، وهو من أشد الأنظمة العربية تسلطاً ودكتاتورية، عمد إلى التقرب من الغرب، الذي كان عدواً لدوداً له في الأمس القريب، وصولاً إلى تقديم أثمان باهظة، من المال والكرامة الوطنية، في مقابل قبول الغرب باصطفاف طرابلس إلى جانبه . وفي المجال الداخلي حاول ادخال بعض الاصلاحات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية .

قام النظام الليبي بخصخصة تدريجية للاقتصاد الذي كانت تسيطر عليه الدولة سيطرة مطلقة . وقامت حكومة شكري غانم، بين العامين 2003 و،2006 بعمليات خصخصة طالت المصرفين الأكبر في البلد وبعض الشركات الكبرى في قطاعي الطاقة والصناعة، وذلك بغية تشجيع الاستثمارات الاجنبية عبر تأمين ضمانات ضرورية لعملها .

هذا الانفتاح على الخارج فتح مجالاً واسعاً للتنافس بين المستثمرين الغربيين على القطاع النفطي الليبي . والمعروف أن ليبيا تمتلك احتياطات نفطية واسعة وحقول هي الأهم كماً ونوعاً، في القارة الإفريقية . لكن تبين أن البيروقراطية المحلية والفساد أعاقا نمو الاستثمارات الاجنبية .

ومن ناحية أخرى، لم تتمكن القطاعات غير النفطية من جذب الاسثمارات رغم الرغبة المعلنة للحكومة الليبية بالاستعداد لما بعد النفط . فقد أخفقت هذه الحكومة في خلق سوق داخلي حقيقي وهو سوق لا يمكن أن يوجد في فراغ اداري ومؤسساتي واجتماعي . فالدولة هي المكلفة بوضع الوسائل الادارية الكفيلة بحماية حقوق الملكية واحترام العقود وتطبيقها وتخفيض كلفة التبادلات، وفي المحصلة رعاية تنافس حقيقي ما بين المستثمرين .

والحقيقة أن تنفيذ اصلاحات حقيقية يعني، على الأقل، إعادة النظر في العلاقات ما بين النظام والمواطنين . هذه العلاقات التي كانت قائمة في الاصل على سيطرة السلطة على العائدات النفطية وعملية اعادة توزيعها على المواطنين بشكل سلع استهلاكية مدعومة وبنى سكنية رخيصة وصولاً إلى المكرمات المالية . ففي العامين 2008 و،2009 على سبيل المثال، تلقت كل عائلة ليبية مبلغ خمس آلاف دولار أمريكي كهبة من الدولة . لكن ذلك لم يسهم في حل مشكلة البطالة التي ارتفعت إلى 20% بل تخطت 30% في المنطقة الشرقية . المشكلة بنيوية وسببها قيام الاقتصاد الليبي بكامله على النفط .

وهكذا بما أن الاصلاحات الاقتصادية التي اضطر القذافي لاطلاقها، في العقد الماضي، هددت سيطرته السياسية على الاقتصاد فإنه تردد في تنفيذها لاسيما أن تياراً نافذاً من المقربين منه خشي على مصالحه المهددة بالاصلاحات فدخل في عراك مع التيار الاصلاحي الليبرالي . والمعروف ان الدولة الليبية ريعية بامتياز وذلك منذ آجال طويلة، وعلى الارجح أن تبقى كذلك لوقت ممتد . وإذا كان المواطنون، في الاقتصادات الانتاجية، يرضون بالضرائب التي يقرها ممثلوهم في البرلمان، فإن الضرائب يُنظر إليها، في الاقتصادات الريعية، بتوجس وريبة، حتى في حدها الأدنى الضروري لتسيير عمل الدولة وتمويل مشاريعها ودفع رواتب موظفيها . وعلى ليبيا الجديدة بعد الثورة أن تزاوج ما بين اقتصادها الريعي، غير المتكيف بعد مع أصول العمل الديمقراطي، والطبيعة القبلية لمجتمعها المنقسم ما بين مناطق ثلاث مهددة بالانفصال عن بعضها البعض . واليوم بعد أن عاد النفط الليبي الى السوق العالمي فعلى الحكومة الجديدة أن تستخدم عائداته في إعادة الاعمار، وهي مهمة شاقة ومكلفة ليس فقط بسبب ما خلفته معارك الثورة ولكن بسبب ما راكمته سنون حكم القذافي الطويلة من تسيب وخراب . ويقدر الخبراء فاتورة اعادة الاعمار بمئة مليار دولار على الأقل للسنوات الخمس المقبلة، وهي تكلفة بناء بنية تحتية قادرة على اجتذاب المستثمرين . وينصح الخبراء الحكومة الجديدة بالتركيز على كل ما أهمله القذافي في مجالات الصناعات الكيميائية والنقل والسياحة والمال والمصارف، إذا أرادت أن تتصدى لمشكلة البطالة . انها ورشة صعبة ومعقدة على خلفية صراعات سياسية ومحاولات انفصالية .

ويخشى كثير من المحللين أن تلجأ الحكومة الليبية الجديدة، من أجل الحفاظ على شعبيتها وشرعيتها، إلى الخيار السهل القائم على إعادة توزيع عائدات الاقتصاد الريعي . في هذه الحالة ستبقى القطاعات غير النفطية، سواء المتجهة للتصدير أو للاستهلاك الداخلي، هامشية وعديمة الفعالية . وهذا ما قد يعيد انتاج الاسباب الاقتصادية والاجتماعية للثورة .

خبير اقتصادي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"