الديمقراطية وتقنيات الإخراج السياسي

03:33 صباحا
قراءة 4 دقائق
نتحدث في الأغلب عن الإخراج المسرحي وعن الإخراج السينمائي أو التلفزيوني بالنسبة إلى مجموعة هائلة من البرامج والحصص التي تهمّ المشاهدين والمستمعين وكل المهتمين بالفنون وأشكال التواصل السمعي والبصري، لكننا لا نلتفت في الأغلب إلى أن تطور الممارسة الديمقراطية في الغرب تزامن مع التحول الكبير الذي عرفته الفنون المسرحية والسينمائية، حيث تبلور الإخراج السياسي للمشهد المتعلق بالممارسة السياسية بموازاة التقدم الذي كانت تشهده تقنيات الإخراج بالنسبة إلى الفنون البصرية، لاسيما في سياق ما أضحى يُعرف بالفن السابع . إذ ظلت المقولات السياسية التي تحدّث عنها زعماء التنوير حبراً على ورق طيلة أكثر من قرن من الزمن وبقيت الأوضاع السياسية في أوروبا الغربية والولايات المتحدة تتأرجح بين الحرية المحتشمة والمقيّدة تارة، وبين الطغيان السياسي تارة أخرى؛ ولم تتطور منظومة حقوق الإنسان من الناحية العملية والتطبيقية في مجمل الدول الغربية إلا بعد الحرب العالمية الثانية وميلاد الإعلان العالمي والأممي لحقوق الإنسان . حتى إن الكثير من الحقوق التي بِتنا نتصور أنها أزلية بالنسبة إلى الممارسة السياسية في الغرب، مثل المساواة بين الجنسين وحق المرأة في الترشح والانتخاب، لم تترسّخ بشكل فعلي إلا مع منتصف القرن الماضي، بل إن التعبيرات التي كانت تُنعت بها النساء المناضلات في الحركات النسوّية، تتميّز بالعنصرية والذكورية المتطرفة، وكانت المرأة التي تطالب بالمساواة توصف، بأنها "سحاقية" أو "مشعرة"، كناية على افتقادها إلى خاصية الأنوثة، واستمرت هذه الوضعية إلى فترة متأخرة من القرن الماضي .
وعندما نتأمل جيداً في الدلالات الاشتقاقية لكلمة إخراج في العديد من اللغات الأوروبية نلاحظ أن كل إخراج هو في نهاية المطاف إخراج يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمشهد ما، يكون افتراضياً قبل أن تُحوِّله تقنيات معقدة ومتقنة إلى مشهد مرئي يتجاوز في إيحاءاته الواقعية "الواقع"، كما تلامسه أحاسيس البشر انطلاقاً من تجاربهم وشعورهم المباشر . ويشير معجم "لوروبير" الفرنسي الشهير، إلى أن فعل أخرج يفيد من حيث دلالته العامة: العمل على إيجاد وفق المعنى الواقعي الملموس، لما لا يوجد في الأساس إلاّ في الذهن . أما المُخرج فهو الشخص الذي يقود كل عمليات التحضير من أجل إنجاز مشهد أو فيلم ما، في الوقت الذي ينحصر فيه الإخراج من الناحية التقنية في التنظيم المادي والقيام بالتمثيل لمشهد ما، من خلال اختيار الديكور والأمكنة وتوجيه حركات ونشاط الممثلين، ويتضح لنا من ثمة اعتماداً على هذه السياقات الدلالية، أن وظيفة المُخرج هي أكثر أهمية وخطورة من فعل الإخراج نفسه . لذلك فقد أدّى الإخراج السياسي الغربي السيئ للممارسة الديمقراطية في بداية الأمر، إضافة إلى ضعف خبرة وكفاءة المُخرجين، إلى كوارث وحروب أهلية بل وإلى حروب كونية، كما أدى سوء تقدير العواقب وانعدام القدرة المسبقة على التحكم في مخرجات العملية السياسية إلى سقوط إيطاليا في أحضان الفاشية وإلى معاناة ألمانيا من ويلات وجحيم النازية . وحتى الدول التي عرفت استقراراً نسبياً كبريطانيا مثلاً، كان عليها أن تسير بحذر بالغ، من أجل المحافظة على السلم المُجتمعي الذي كانت تضمنه المدونة التشريعية القائمة على العرف .
ويمكن القول بناءً على ما سبق أن تطور الأداء السياسي في الغرب وتراجع العنف المادي ضد الخصوم والمعارضين، يعود بشكل أساسي إلى تطور تجربة الإخراج من جهة، وإلى الخبرة المتراكمة والكبيرة التي أصبحت تتمتع بها النخب السياسية والعسكرية والاقتصادية الغربية في مجال الإخراج السياسي، الأمر الذي يُغني مُجمل الأطراف عن اللجوء إلى العنف المادي بالرغم من التناقضات الكبيرة التي يعانيها المجتمع، وبالرغم أيضاً من الهشاشة الاجتماعية التي تعايشها الكثير من الفئات .
لقد تم، إذاً تدجين الممارسات العُنفية المادية بشكل كبير، كما جرى التخفيف من حدة العنف اللفظي، وتم استبدال كل ذلك بأدوات قمع رمزية تجعل من الصعوبة بمكان أن تتحول المعاناة الشخصية للأفراد إلى معاناة جماعية إلا في حالات نادرة، وبفضل إخراج متقن تسيّره النقابات العمالية من أجل إيجاد منافذ للتنفيس، والحيلولة دون الانفجار الشامل للأوضاع، وحتى لا تُفضي الأزمات المفاجئة إلى التفكير مرة أخرى في إعادة صياغة جذرية لنموذج مشروع المجتمع القائم .
والحقيقة أن ما أوردناه من تحليل لماهية الديمقراطية والإخراج السياسي في الغرب في سياق هذه العجالة، لا يرمي البتة إلى الانتقاص من هذا الجهد والاجتهاد البشري الذي تحقق في الغرب من أجل تجاوز أشكال القمع والطغيان المادي الفظ والمباشر الذي تعانيه كثير من المجتمعات الشرقية؛ ولكن الهدف الأساسي من وراء ذلك هو محاولة الرد على المزايدات التي يقع فيها الغرب، حينما يرفض أن تلجأ كيانات وطنية إلى بعض الإجراءات الاستثنائية من أجل المحافظة على استقرارها ومصالحها القومية، وعلى السِّلم المُجتمعي لمواطنيها .
وعليه، فإن عمل الغرب على دفع المجتمعات الأخرى إلى اعتماد آلياتها السياسية المعقدة في مجال الإعداد المسبق لمسرح الحدث السياسي، في ظل ضعف تقنيات الإخراج وقلة كفاءة النخب السياسية على ممارسة مهام المُخرج السياسي البارع ، يهدف بحسب زعمنا إلى التعجيل بتفتيت الكيانات القومية والوطنية للدول، وتسهيل عملية ربطها وإلحاقها بالاحتكارات العالمية الكبرى . وبالتالي فإن الغرب لا يكترث كثيراً لضُعف الممارسة المتصلة باللعبة الديمقراطية- وعلينا أن نتأمل هنا جيداً دلالات مفهوم لعبة- وحقوق الإنسان لدول عظمى مثل الصين وروسيا، ولكنه يريد أن يدفعها إلى تبني إخراج سياسي وفق مواصفات غربية محضة، وهي تعلم يقيناً أن شعوب هاتين الدولتين لم تصل بعد إلى إفراز نخب سياسية قادرة على التحكم في هذا الإخراج . ذلك أن الغرب يعلم مسبقاً أن محافظة القوى الكبرى غير الغربية على استقرارها لمدة طويلة وتحقيقها لمعدّلات نمو كبيرة، قد يؤثر سلباً في مصالحها، ومن الممكن أن ينجر عن استمرار مثل هذا المشهد الدولي، ميلاد مسار سياسي جديد يهدف إلى إعادة النظر في مشروع المجتمع الغربي برمته، لأن لا شيء يمكن أن يظل غير قابل للمراجعة بالنسبة إلى حياة الشعوب في سياق مسار تطورها التاريخي الطويل .

الحسين الزاوي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"