أين ستشن “إسرائيل” حربها المقبلة؟

03:17 صباحا
قراءة 3 دقائق

من المبالغة بمكان القول بأن الفلسطينيين حققوا انتصاراً عسكرياً على الجيش الإسرائيلي في معركة غزة الأخيرة . في الأصل لا مجال البتة للمقارنة بين القدرات النارية الهائلة للجيش الإسرائيلي، وما يملكه فلسطينيو غزة المحاصرون من صواريخ تم تهريبها بالجهد والخوف والعرق .

ولكن بموجب القاعدة التي وضعها كارل فون كلاوزفيتز وشرحها هنري كيسنجر، والقائلة يخسر الجيش النظامي إذا لم ينتصر، وينتصر الأنصار إذا لم ينهزموا، يمكن القول إن غزة حققت انتصاراً عكسته مفاوضات كانت إسرائيل تستجدي خلالها وقفاً لإطلاق النار وعودة إلى التهدئة . وإذا أضفنا إلى ذلك ما تحقق من نصر رمزي ومعنوي وسياسي عبر حصول دولة فلسطين على صفة العضو المراقب في الأمم المتحدة، على الرغم من معارضة وضغوط الولايات المتحدة وإسرائيل، يمكن القول عندئذٍ إن هذه الأخيرة أضحت تتلقى الصفعة تلو الصفعة في صراعها مع الفلسطينيين . وقرارها معاقبة السلطة الفلسطينية عبر إقرار بناء ثلاثة آلاف وحدة استيطانية في المنطقة أ من الضفة الغربية، والإحجام عن تسليم السلطة الأموال المتأتية من الضرائب الفلسطينية، لن يحوّل هزائمها انتصارات، بدليل ردود الفعل الغربية الغاضبة على إجراءاتها غير الشرعية التي جاءت وتيرتها هذه المرة أعلى مما كانت عليه في المرات السابقة .

الدروس المستقاة من معركة غزة باتت معروفة للجميع، وفي طليعتها عدم جاهزية المجتمع الإسرائيلي، رغم كل التدريبات والتمارين، لتحمل تبعات حرب تقع في شوارعه وأحيائه نتيجة الصواريخ المتساقطة عليها، رغم محدودية القوة التدميرية للصواريخ الفلسطينية بالمقارنة مع مفاعيل الآلة العسكرية الإسرائيلية البرية والبحرية والجوية . ومن المؤكد والحال هذه أن هذا المجتمع لن يتحمل حرباً مع أعداء يملكون أضعاف أضعاف قدرات غزة العسكرية عموماً والصاروخية على وجه الخصوص، وبالتالي فمن المنطقي التوقع بأن لا حرب إسرائيلية، في الأفق المنظور . على الأقل، ضد لبنان أو إيران .

لقد أدت حرب غزة وظائف عديدة لالإسرائيليين في طليعتها امتحان القدرات الفعلية، وفي ظروف حرب حقيقية، للمنظومة الدفاعية المسماة القبة الحديدية التي تبين بالتجربة الحية أنها قادرة على اعتراض نسبة ضعيفة من الصواريخ الفلسطينية وبكلفة مادية جد مرتفعة . ونظام القبة الحديدية هذا هو ثمرة لتعاون إسرائيلي - أمريكي، ويهم الولايات المتحدة أن يُعمل على تطويره وتحسين قدراته كما يهم إسرائيل وبالقدر نفسه .

يقول المحامي الإسرائيلي الناشط في مجال حقوق الإنسان ميشال شودوفسكي، إن الاعتداء على قطاع غزة المحاصر جاء بناء لتنسيق أمريكي - إسرائيلي بعد مناورات وتدريبات عسكرية مشتركة . وفي طليعة أهداف هذا الاعتداء امتحان قدرات القبة الحديدية بغية تطويرها بعد التعرف إلى مكامن الخلل والضعف فيها، تمهيداً لاستخدامها في حرب محتملة مقبلة ضد لبنان و/أو إيران . ومن المؤكد أن الخبراء في البلدين منكبّون في هذه اللحظات على دراسة نتائج الاختبار بغية البدء في ورشة التطوير والتعديل . وقبل الانتهاء من هذه الورشة فمن المرجح ألا تجازف إسرائيل بتعريض سكانها لمخاطر حرب صاروخية جديدة .

بعد الانتهاء من هذه الورشة التي قد تتطلب أشهراً طويلة بل سنوات، لا بد من وضع القبة الحديدية مجدداً أمام الاختبار الحي للتأكد من قدراتها الجديدة . وهذا لن يكون ممكناً إلا من خلال حرب حقيقية ستكون ساحتها غزة مجدداً على الأرجح، لماذا؟

لأنه أقل كلفة من الاختبار في حرب على لبنان أو إيران، حيث ثمن الحرب سيكون باهظاً جداً والمخاطرة غير معروفة العواقب في حال لم تؤد القبة الحديدية وظيفتها على النحو المرجو . ومنذ اللحظة فإن غزة تسعى إلى تطوير منظومتها الصاروخية عبر الصناعات المحلية والتهريب، وإسرائيل تسعى إلى تطوير قدراتها الاعتراضية للصواريخ، بدعم من واشنطن . أي بتعبير آخر التحقت غزة الصغيرة الضعيفة بالسباق التكنولوجي المحتدم في المنطقة، والحرب الإسرائيلية المقبلة ستكون في هذه الساحة التي أخذت دور لبنان الذي طالما كان حقلاً لتجارب السلاح ومنظومات التدمير والقتل .

إذا بقي ميزان القوى على حاله في منطقتنا فمن المؤسف الاستخلاص بأن الحرب الإسرائيلية المقبلة ستكون، على الأرجح، في غزة مجدداً، وعلى نتائج هذه الحرب سيترتب وضع جديد في المنطقة يفتح أمام أحد احتمالين: إما انكفاء عسكري إسرائيلي نهائي هذه المرة بسبب عدم القدرة على تحمل نتائج اندحارات متتالية، وهو انكفاء سيرتّب مشهداً استراتيجياً جديداً يسهم الربيع العربي في صياغته، وإما عودة من الباب الواسع إلى الحروب الإسرائيلية وأشكال جديدة من هذا الصراع الذي لا نهاية له .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"