إنفلونزا أخلاقية

أفق آخر
05:47 صباحا
قراءة دقيقتين

عندما كان العالم مشتبكاً مع الإيدز كما لو كان يخوض حرباً كونية طرفاها ليسا الرأسمالية والشيوعية بل الإنسان والفيروس، التقط أحد الصحافيين الأمريكيين صورة لطبيب كرّس حياته للحرب على الايدز، وكان يضع على مكتبه عبارة للدكتور ريو بطل رواية الطاعون الشهيرة للكاتب الفرنسي ألبير كامو، والعبارة تتكثف في كلماتها القليلة رسالة الطبيب، وهي لا تقل أهمية عن قسم أبوقراط، لأنها تضيف إلى شرف المهنة شرف الموقف الأخلاقي.

د. ريو في رواية الطاعون كان يفحص المصابين معرضاً نفسه للعدوى، وقد وصفه المؤلف بأنه من تلك السلالة التي لا تعبأ بمصيرها الشخصي وترى أن الإنسانية أبقى من الفرد.

والأوبئة التي عصفت بالعالم منذ عقدين لم تعثر بعد على روائيين من طراز كامو الذي كتب عن الطاعون، وماركيز الذي كتب عن الحب في زمن الكوليرا، لأن الناس مشغولون بمقاومة أوبئة أخرى، كالاحتلال والفقر والفساد العابر للقارات والحدود.

حتى رواية كامو الطاعون لم تكن في حقيقتها عن الفئران رغم أنها تعج بالفئران الميتة على أدراج المنازل وفي الأزقة، فقد كانت عن احتلال فرنسا للجزائر، والاحتلال طاعون بالفعل، رغم أن ما يتسبب به ليس الفأر بل الإنسان الذي أصابته القوة بالعمى ولم يعد يرى أبعد من أنفه.

وقبل فترة من الزمان تحالف الوباء سارس مع رجل أعمال اسمه سورس ضد الآسيويين وسرعان ما أصبح الوباء العضوي مجرد وجه أو بُعد من أبعاد وباء سياسي واقتصادي، وثمة من بدأوا الكتابة الآن عن علاقة إنفلونزا الخنازير بالأزمات الاقتصادية العالمية والدور الذي قد يلعبه الوباء إذا استشرى على صعيد اقتصادي.

بالطبع ثمة صلة بين الأعاصير الطبيعية والكوارث والأوبئة وبين الحراك البشري بكل تجلياته وظواهره وميادينه، ما دام الأمر يتعلق بالتواصل والانقطاع، وبتكريس معظم الوقت لدرء الخطر المداهم، فالأوبئة والكوارث تعيد ترتيب الأجندات والأولويات لأنها ترتبط بحياة الناس وهي الأهم من كل شيء آخر.

وأذكر أن قساً إيرلندياً مناصراً لقضايا الشعوب، قال إن جرثومة الطاعون أصابت المؤلف ألبير كامو، وانتقلت إليه عدوى الوباء من أبطال روايته، ذلك لأنه اختار لهم أسماء فرنسية خالصة، رغم أنهم عرب وجزائريون ومن سكان مدينة وهران.

إن إنفلونزا الطيور والخنازير لها بُعد آخر فالعدوى الفيروسية قد تنتقل إلى الساسة ويصاب بها الجنرالات أيضاً، لكن على طريقة القس الإيرلندي أوبراين الذي قال ساخراً بأنه حقن نفسه باللقاح ضد الطاعون وهو يقرأ الرواية خشية من تسرب العدوى.

هذا الوباء اختبار آخر لما توصل إليه الطب لكنه اختبار أشد عُسْراً لما توصل إليه الضمير العالمي، فثمة شعوب فقيرة ومحاصرة ومنهمكة في توفير الرغيف والأدوية البدائية، وقد لا تقوى على صد جرثومة الكوليرا، كما حدث في زيمبابوي قبل فترة قصيرة. وقد يعود مرض السل الذي قيل إنه أصبح من مخلفات الماضي بكامل جبروته ويفتك بشعوب وأمم.

المسألة في النهاية ليست مسألة إنفلونزا أو جراثيم أو فيروسات ذكية شديدة التأقلم مع كل طارئ، والعالم الذي يعاني من طاعون الاحتلال وكوليرا الكراهية وسل الجهل، لن ينتصر على الفيروسات قبل أن ينتصر على نفسه وعلى فيروس الأنانية الذي يفتك به.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"