المواطن العالمي.. بين الأسطورة والضرورة

04:21 صباحا
قراءة 4 دقائق
د.إدريس لكريني

يعيش العالم في المرحلة الراهنة على إيقاع مفارقتين كبيرتين، الأولى، تحيل إلى تطور التكنولوجيا وما يرافقها من تعزيز للتواصل بين الدول والمؤسسات والأفراد في مختلف بقاع العالم، وتحرير الأسواق وتراكم الاتفاقيات الدولية في شتى المجالات، وتنامي الاهتمام بقضايا حقوق الإنسان كما هو متعارف عليها، علاوة على تراجع المفهوم الصارم والتقليدي للسيادة، وتشابك العلاقات الدولية على مختلف الواجهات بصورة غير مسبوقة، وتوجّه الدول نحو التكتل، وتصاعد أدوار المنظمات الدولية بمختلف أشكالها.
والثانية، تحيل إلى تنامي الصراعات والأزمات سواء على المستوى الداخلي أو فيما بين الدول، وهو ما تعكسه حالات التوتر التي تعمّ مناطق مختلفة من العالم، إضافة إلى تصاعد حدّة التسلح وتوجّه عدد من الدول إلى امتلاك أسلحة استراتيجية ونووية، وتزايد الهوّة بين شمال مستقر؛ يمتلك التكنولوجيا والإمكانيات الاقتصادية والعسكرية وجنوب يعاني الهشاشة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأمنية.. ثم تفشي مخاطر حقيقية عابرة للحدود..
في خضم هذه المتغيرات، كثر الحديث عن المواطن العالمي، كأحد تجليات عالم اليوم، مع تمدّد العولمة، وانفتاح شعوب العالم على بعضها، تماشيا مع الثورة التكنولوجية وانتشار شبكة الإنترنت، وكرهان إنساني يدعم التواصل والتسامح لتجاوز حالة القلق والترقب التي تحيط بعالم اليوم في ارتباطها بالمخاطر والأزمات الأمنية والسياسية والاقتصادية المتصاعدة.
تزايد الحديث عن المواطن العالمي في العقود الأخيرة التي شهد فيها العالم تحولات كبرى بعد نهاية الحرب الباردة، دعمت انفتاح معظم الدول على محيطها، وما رافق ذلك من إصلاحات سياسية وحقوقية، والالتفات إلى مخاطر وإشكالات تواجه الإنسانية جمعاء..
إن التعريفات الواردة بصدد «المواطن العالمي» أو «المواطن المعولم» ما زالت تحمل قدراً من الالتباس والغموض، بين من يعتبره ذلك الشخص المنفتح الذي يرى في العالم بتشابكه وعلاقاته ومصالحه التي تعلو على كل مصلحة أو انتماء سياسي أو عرقي أو إيديولوجي ضيق وطناً له، وبين من يرى فيه نتاجاً طبيعياً للتحولات الدولية الجارية منذ بداية التسعينات من القرن الماضي باتجاه العولمة والاهتمام بقضايا ومخاطر مشتركة.
وتنتج عن «المواطنة العالمية» على غرار المواطنة المحلية حقوق وواجبات كونية بموجب التشريعات والمواثيق الدولية، وتشير الكثير من الأبحاث والدراسات إلى أن حقوق «المواطن العالمي» تنتعش وتزدهر في ظل السلم والأمن الدوليين واحترام الممارسة الديمقراطية وحقوق الإنسان، فيما تتهدّد وتتدهور في أجواء الحروب والتوترات والصراعات والأزمات العالمية المختلفة.
وهناك مجموعة من العوامل التي بدأت تسهم في تراجع مفهوم المواطنة في مظهره الضيّق والمحلي، مقابل بروز ما يسمى «بالمواطنة العالمية» أو المواطن العالمي، ذلك أن تطور العولمة التي أضحى بموجبها العالم قرية صغيرة تجمعها مصالح اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية وتشابك المصالح وتنامي الاعتماد المتبادل بين الدول، وتزايد أدوار الفاعلين الجدد في الساحة الدولية من منظمات دولية وشركات كبرى وأفراد ورأي عام عالمي أسهم في تآكل المفهوم التقليدي للسيادة وتراجعه.
كما أن تزايد الاهتمام بقضايا حقوق الإنسان في أبعادها الكونية، بعيداً عن أي تمييز عرقي أو ديني أو أي عامل آخر مرتبط باللون أو النوع أو الجنس أسهم إلى جانب تطور تكنولوجيا الاتصال وإقبال شباب العالم على شبكات التواصل الاجتماعي التي انتقلت من آلية للنقاش وتبادل الآراء إلى قنوات حقيقية للضغط وتداول القضايا العالمية المختلفة، في بلورة ثقافة وانتماءات تتجاوز حدود الدول الجغرافية، وفي تآكل الإيديولوجيا، واعتبار شعوب العالم شركاء في كوكب واحد تتهدّد سكانه مخاطر وتحديات مشتركة..
ولعبت التكتلات الواعدة واستثمارها المشترك الجماعي، أدوراً كبيرة في بلورة روح واسعة للمواطنة تتجاوز حدود الدولة الواحدة، حيث تنامى الاهتمام بالقضايا والمخاطر الدولية التي تلقي بظلالها أمام كل دول العالم بشمالها وجنوبها، كما توسّع مدلول السلم والأمن الدوليين، مع بروز مخاطر غير عسكرية تفرض تحديات أمام «المجتمع الدولي» برمته، كما هو الأمر بالنسبة للإرهاب الدولي، والجريمة المنظمة، وإشكالات التحوّل الديمقراطي، وانتهاكات حقوق الإنسان، والأمراض الخطيرة العابرة للحدود، وتلوث البيئة..
يظلّ إرساء مواطنة عالمية في مستوى التحدّيات المطروحة في عالم اليوم، أمراً محفوفاً بالصعوبات، ففي الوقت الذي تعززّت فيه الجهود الدولية الرامية إلى بناء حوار عالمي يدعم التواصل الإنساني، بعدما دشّنت الجمعية العامة للأمم المتحدة منذ نهاية التسعينيات نقاشات مهمة، أثمرت عقد لقاءات وازنة وصدور توصيات وإعلانات دولية عديدة تدعم إيجابية التنوع الثقافي كعامل محوري في إغناء تطور وتقدم الإنسانية، وتدعو إلى تفعيل الحوار بين مختلف الحضارات.. جاءت أحداث الحادي عشر من شهر سبتمبر/أيلول بالولايات المتحدة الأمريكية عام 2001 لتعقّد الأوضاع من جديد، لتتلوها مجموعة من الأحداث الإرهابية على امتداد مناطق مختلفة من العالم، خلّفت بدورها حالة من القلق والشك بين الشعوب، فيما تصاعدت حدّة الهجرة السرية هرباً من الحروب والأوضاع الاجتماعية المأساوية..
يوما بعد يوم تتلاشى الحدود السياسية في عالم اليوم، لتمر البضائع والأفكار والعلوم والثقافات. ورغم أن الإنسان مازال مستثنى من هذه الدينامية، فإن تزايد الشعور بالقلق وعدم الأمان وفقدان الثقة في المستقبل، والوعي المتزايد بمصير مشترك، وتزايد التواصل بين الشعوب.. كلها عوامل تجعل من تحقق حلم المواطن العالمي أمراً يتجاوز الأسطورة إلى الضرورة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​باحث أكاديمي من المغرب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"