محنة اللجوء السوري وضوابط الصراعات

05:12 صباحا
قراءة 4 دقائق

تعترض كل من موسكو وبكين على تفويض مجلس الأمن إرسال بعثة لتفقد أحوال اللاجئين السوريين في الأردن ولبنان وتركيا . المسوّغ الذي يُساق للاعتراض أن هذا الإجراء من شأنه التمهيد لتدخل أجنبي في سوريا، وهو مسوّغ يخلو من الوجاهة، ويعكس ضعفاً في الحساسية تجاه محنة تشريد عدد يتراوح بين مليون ومليون ونصف سوري نازح إلى البلدان الثلاثة . قيام الأمم المتحدة بدورها في هذا المجال عبر سائر مؤسساتها، هو من أبسط مهمات هذه المؤسسات بما فيها مجلس الأمن أعلى هيئة في المنظمة الدولية ذات المسؤولة حكماً عن أمن الدول والشعوب والمجتمعات . النازحون السوريون خرجوا لأن أمنهم كان مهدداً تهديداً جسيماً وتعرضوا إلى خسائر وأضرار فادحة في مساكنهم وممتلكاتهم ومصادر رزقهم . في أماكن اللجوء ينالون الحد الأدنى وما دونه من الرعاية، وفي شرط حياة عسيرة يفاقم منها الشعور بالاقتلاع . وفي وقت تزداد فيه الأزمة السورية تعقيداً واستعصاء فإن محنة اللجوء تتفاقم . كل من يتيسر له الخروج يخرج في مغامرة غير مأمونة . إنهم ببساطة مطاردون، ولا يصادفون ترحيباً يذكر بهم في أماكن اللجوء بل يواجهون بالصدود، ومع ذلك ها هما دولتان كبيرتان تستكثران أن تعمد الأمم المتحدة إلى تفقد أوضاعهم .

ليس بالضرورة أبداً أن مهمة كهذه تمهد لتدخل خارجي، فلطالما تفقدت بعثات للمنظمة الدولية أحوال اللاجئين الفلسطينيين من دون أن يؤدي ذلك إلى تدخل أجنبي يذكر، بل إن الأمر يكاد يكون على العكس من ذلك: فالقيام بمثل هذه المهمات التفقدية يوظف من بعض الأطراف الدولية لتبرئة الذمة، وتسويغ عدم التدخل لا التدخل .

يدرك المرء أن مهمات كهذه تظل قاصرة عن معالجة محنة اللجوء التي لا سابق لها في تاريخ السوريين، فالأزمة مستمرة، ومن لا يتسنى له الرحيل عبر الحدود يسعى للنزوح داخل الوطن إلى مناطق أقل خطراً، وهناك من لا يسعفه الحظ في هذا أو ذاك فيصبح رقماً في الأرقام اليومية للضحايا أو المصابين . الجانب الإنساني في الصراع القائم هو الأكثر مدعاة للاهتمام والمعالجة، فالمدنيون يُستهدفون بأضعاف ما يُستهدف العسكريون والمسلحون . وبينما النزيف يتواصل فإن بكين وموسكو لا تجدان ما تفعلانه أو تقولانه سوى ترك اللاجئين وشأنهم . وهو موقف يعزّ على أي تعليق . ففي الصراعات دائما وأياً كانت الانحيازات السياسية الخارجية تجاه أطراف الصراع، فإن الدعوات تتركز على تجنيب المدنيين ويلات الصراع . برزت هذه المواقف في صراع البلقان والصراع الأخير في مالي والصراع حول إقليم القوقاز/ الشيشان وفي كل مكان . الدفاع عن المدنيين والسعي إلى حمايتهم وتأمين اللجوء لهم في دول الجوار والسعي إلى تمكينهم من العودة هو في صلب مبادىء الأمم المتحدة وأحكام القانون الدولي، بصرف النظر عن مدى الجدية في تطبيق هذه المبادىء والأحكام . إن أحداً ليس بوسعه حذف المدنيين من خطابه السياسي وطرحه جانباً واعتباره من النوافل، ومما يثير الذهول حقاً ما تبديه كل من موسكو وبكين في إقصاء محنة اللجوء السوري عن الاهتمام، وكأن هذه المحنة من الأعراض الحتمية لكن الهامشية والتافهة للصراع الذي تشهده سوريا، ولا تستحق هذه الأعراض اهتماماً يذكر، ويُكتفى بتأجيل الاهتمام بها إلى أن يصار التوجه نحو حل شاف يضع حداً لجميع جوانب الصراع ذات يوم .

تتحدث المفوضية العليا لشؤون اللاجئين في الأمم المتحدة عن ترجيح وصول عدد اللاجئين إلى الأردن إلى نحو 1،2 مليون نازح مع نهاية العام الجاري بما يضاهي خُمس سكان الأردن . في لبنان يقترب العدد من نصف مليون نازح سوري، يعيشون تحت وطأة التجاذبات الداخلية اللبنانية . في تركيا أعداد مشابهة، علاوة على من نزحوا إلى الجزائر ومصر وكردستان العراق ودول أخرى، ولا شيء يوحي أن النزوح سيتوقف مع بقاء الصراع محتدماً من دون حل .

كما دول أخرى غربية على المسرح الدولي، تعزف موسكو وبكين من جهتهما عن الضغط الجدي من أجل التوصل إلى حل، يؤدي بين ما يؤدي إليه إلى تمكين النازحين من العودة في أسرع الآجال إلى ديارهم، وإن كانت كل منهما تتحدث من دون توقف منذ نحو عشرين شهراً على الأقل، عن القناعة بالحل السياسي كمخرج وحيد، مع ترديد التصريحات عن رفض التدخل خارجي وهي صيغة للحؤول من دون إبداء أي اهتمام خارجي ملموس بما يجري .

اللامبالاة التامة تجاه محنة نحو ستة ملايين من المدنيين السوريين النازحين إلى الداخل والخارج، يكشف مفاهيم جديدة ذات درجة من التبلور، تطغى فيها الانحيازات الأيديولوجية ومصالح التنافس الدولي وضمان النفوذ، طغياناً صارخاً على ما درجت البشرية على تصنيفه بضوابط أخلاقية للصراعات والأزمات المسلحة . قدر وفير من هذا اتسمت به السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي - الإسرائيلي، وتجاه محنة العراقيين بعد اجتياح العام 2003 للعراق، وتجاه محنة اللبنانيين في حرب العام 2006 على لبنان . من المؤسف إلى درجة بعيدة أن تنشأ محنة عربية جديدة تتمثل باللجوء السوري، فتبدي دولتان طالما اعتز العرب بروابط الصداقة معهما، استخفافاً بهذه المحنة مع إثارة شبهات التسييس حول أي اهتمام فعلي بهذه المحنة، علماً بأن إدارة الظهر لهذه المأساة هو تسييس فائق في اتجاه معاكس .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"