"النموذج" التركي على محك الربيع العربي

05:51 صباحا
قراءة 3 دقائق

منذ بداية العام الماضي أضحى النموذج التركي موضوعاً رائجاً في النقاشات الدائرة حول التحولات الثورية العربية التي بدت في حاجة إلى بوصلة توجه مسارها . هذا النموذج الذي يسلك منذ أكثر من عقد كامل سبيل الإصلاح الشامل بقيادة حزب إسلامي يمكن أن يلهم النخب السياسية العربية الجديدة، لاسيما أن هذه الظاهرة تتطور على خلفية عودة تركية إلى المنطقة من أبواب واسعة .

في الحقيقة بدأت عملية تسويق هذا النموذج في الولايات المتحدة بعد تفجيرات 11 سبتمبر 2001 عندما كان المحافظون الجدد بصدد البحث عن عناصر جاذبة تساعد في تسويق مشروعهم للشرق الأوسط الكبير . لقد بدت تركيا، وهي بلد إسلامي عضو في الناتو يرغب في الدخول في الاتحاد الأوروبي، البلد الاكثر تجسيداً لالإسلام المعتدل الحليف للغرب في مواجهة الإسلام الراديكالي المعادي له والذي يستخدم الإرهاب سلاحاً ضده .

التطورات الداخلية في تركيا كانت تسير في هذا الاتجاه . ففي العام 2002 وصل حزب العدالة والتنمية الإسلامي إلى السلطة بعد أن كان قد تأسس قبل عام واحد على يد أعضاء سابقين في حزب الرفاه المتحدر من تيار قومي إسلامي أسسه الزعيم التاريخي نجم الدين أربكان في سبعينات القرن الماضي . جمع حزب العدالة والتنمية أعضاء من الطبقة السياسية ينتمون إلى اليمين الوسط على قاعدة برنامج اقتصادي عصري ولكن محافظ في ما يخص التقاليد والقيم . زعماؤه مثل رجب طيب اردوغان او عبد الله غول، يصفون أنفسهم بأنهم ديمقراطيون مسلمون على غرار الديمقراطيين المسيحيين في أوروبا .

دفع فريق الحكم الجديد مسيرة الإصلاح قدماً إلى الأمام متطلعاً للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي: الغاء عقوبة الاعدام، البحث عن حل سياسي للمسألة الكردية، إعادة التوازن إلى العلاقة ما بين الحكومة المدنية والجيش . . .إلخ . وتمكن من الاستحواذ على ثقة الناخبين فحقق انتصارات واضحة في الانتخابات المتتالية على حساب النخب القومية والكمالية التي خشيت على العلمانية من مسار أسلمة متسارع وإضعاف لنفوذ الجيش التقليدي .

وضع هذا الحزب استراتيجية صفر مشكلات وتحسين العلاقات مع الجوار بقيادة أستاذ العلاقات الدولية والباحث داوود أوغلو الذي أضحي وزيراً للخارجية .

وكان من الطبيعي أن يكون الشرق الاوسط مختبر الطموحات التركية الجديدة التي تستخدم القوة الناعمة القائمة على الاستخدام المزدوج للأدوات الاقتصادية (توقيع اتفاقات تبادل حر وتسهيل حركة الأشخاص والسلع والرساميل . .)والدبلوماسية (الوساطات ما بين سوريا وإسرائيل وما بين الفصائل الفلسطينية أو بين إيران والقوى الغربية في الملف النووي . . .) .

وقد أسهمت تركيا في تسويق نموذجها عبر المسلسلات التلفزيونية التي أغرت المشاهدين العرب من الرباط إلى الرياض عبر مزيج ذكي من الحداثة والتقليد والذي قدمته بأسلوب إخراجي وتمثيلي لاقى نجاحاً ورواجاً باهرين . ثم جاء الموقف من إسرائيل ليقدم عن تركيا صورة زعيم لنظام اقليمي يفتقر إلى قيادة .

حيال الربيع العربي تقوم تركيا بدور مزدوج : مصدر الهام - وهو تعبير يفضله أردوغان على نموذج - وشريك . وكي نكون أكثر دقة فإن حزب العدالة والتنمية هو الذي يقوم بهذا الدور وليس الدولة ككل . وقد قام بتكثيف اتصالاته بالأحزاب الإسلامية العربية الشقيقة مثل الاخوان في مصر أو حزب النهضة التونسي الذي أعلن زعيمه الغنوشي بوضوح أنه معجب بالنموذج التركي .

ينبغي ألا ننسى أن الذاكرة الجمعية العربية لا تلعب في مصلحة العثمانيين الجدد وهي مفردة جديدة ابتدعها خصوم تركيا في المنطقة .فبعد قرون طويلة من الاستبداد الامبراطوري العثماني بالشعوب العربية أدارت الجمهورية التركية ظهرها للعالم العربي منذ العام 1923 معتبرةً إياه مساحة ملوثة تحكمها قوى متخلفة . من الجهة العربية فإن التعسف والاستبداد هما ما طبع الحكم العثماني الطويل للمنطقة . لذلك ففي حقبة الربيع الذي تعيشه الشعوب العربية كلحظة انعتاق وتحرر تبقى الطموحات التركية الاقليمية التي يصفها البعض بالعثمانية الجديدة مصدر حذر وتوجس .

من ناحية أخرى يبقى غموض النموذج التركي مصدر أسئلة تبحث عن اجابات: هذا النموذج يعني تركيا الكمالية العلمانية التي تتابع تقدمها الديمقراطي منذ قرن تقريباً تحت حراسة جيشها الجمهوري أو يعني الديمقراطية الإسلامية على طريقة حزب العدالة والتنمية، النقاش حول هذا النموذج في صفوف المثقفين والسياسيين العرب يعكس في المحصلة شروخات جديدة في مشهد سياسي يعيش إعادة تشكل . أصحاب القرار السياسي الجدد في العالم العربي يترددون بين التماهي مع هذا النموذج أو استلهامه مع بعض التعديلات أو صناعة نماذج عربية جديدة خاصة بكل دولة تعيش تحولاً ديمقراطياً .هذا التردد يضع حدوداً للنفوذ التركي القادم إلى المنطقة .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"