حينما يكون الجنرال رساماً والمفكر موسيقياً

01:49 صباحا
قراءة 6 دقائق
د. يوسف الحسن

}} استضافت دبي قبل نحو شهرين، معرضاً لمتحف نوبل، وأتاح هذا المعرض للجمهور الاطلاع على أهمية ومكانة جائزة نوبل، الجائزة الأشهر والأرفع مكانة في العالم، والتي تعتبر منذ إطلاقها في السنة الأولى من القرن العشرين، حلماً للساسة والعلماء والأدباء والمبدعين، ولأصحاب الاكتشافات التي أحدثت تغييراً في حياة البشر.

}} المعرض هنا، والمتحف هناك في استوكهولم، كلاهما رحلة إلهام لتحقيق الابتكار، ورسالة حول قوة الإبداع وتأثيره في المجتمعات.
}} في صيف عام 2008، كنت والأبناء والزوجة، في رحلة طويلة شملت عدداً من الدول الاسكندنافية، وعبرنا بالقطار من (هلسنكي) إلى (سانت بطرسبرغ) الروسية، حيث قضينا أياماً نتجول في أروقة وقاعات متحف (أرميتاج) المؤسس في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، والذي يضم أكبر مجموعة من اللوحات في العالم.
}} في قلب استوكهولم القديمة، قضينا ساعات طوالاً، نتسكع ونتأمل في فنون وعمارة هذه المدينة الرائعة، والطرق الضيقة المنتشرة حول الأكاديمية السويدية التي تأسست في أواخر القرن الثامن عشر، وذلك المقهى أمام ساحة الأكاديمية، والذي لا يبعد سوى بضعة أمتار عن مدخل الأكاديمية، حيث تطل «يافطة» متواضعة تدل على متحف نوبل.
}} في تلك الصيفية السويدية، عبرت بوابة المتحف عدة مرات أبحث عن أسماء علماء عرب وأدباء، فازوا بهذه الجائزة، وقفت أمام صور الفائزين منهم، هذا هو أول عربي من أصل لبناني (أبدع في المهجر)، واسمه (بيتر مدور) يحصل على الجائزة في الطب في عام 1960، وعالم آخر اسمه (إلياس جيمس خوري) يحصل على جائزة نوبل في الكيمياء في عام 1990. وهناك نجيب محفوظ في الأدب، وأحمد زويل في الكيمياء، أما حملة جائزة نوبل في (السلام)، فلم أقف طويلاً أمام صورهم.
}} لكن المفاجأة التي أثارت الاهتمام، كانت أمام صورة الجنرال (ونستون تشرشل). الذي حصل على جائزة نوبل في الأدب في عام 1953، وتوفي في عام 1965.
}} عندما نسمع اسم (تشرشل)، نتذكر الجنرال والسياسي والمحارب العنيد والشجاع، نستحضر سيرته كبرلماني ووزير ورئيس وزراء، نتذكره كأرستقراطي إنجليزي، وخطيب مفوّه، حيث كانت خطبه مصدر إلهام للإنجليز أثناء الحرب العالمية الثانية (ليس لديّ ما أقدمه لكم سوى الدموع والعرق والكدح والدماء)، ومشارك في كل حروب إنجلترا في أكثر من مكان، ومن بينها السودان والهند وبريتوريا، ومتولٍّ لمناصب وزارية عدة على مدى نصف قرن كالصناعة، والداخلية، والبحرية والطيران والخزانة وشؤون المستعمرات.. إلخ.
}} بعضنا قد يتذكر، أن تشرشل، كان عضواً في إحدى المنظمات الماسونية عام 1902، وكان جريئاً إلى درجة التهور، وعاشقاً (للسيجار) والكحول، حتى وهو على جبهات القتال، وكان معارضاً للحركة السلمية التي قادها غاندي في الهند. وفضّل «أن يُترك غاندي وهو مضرب عن الطعام، حتى يموت».
}} كل ذلك، وأكثر منه هو مشاع ومعروف، لكن الجديد المفاجئ والذي تعلمته في متحف نوبل في تلك الصيفية السويدية الممتعة، أن (ونستون تشرشل) هو فنان ومؤلف وكاتب، وحاصل على الدكتوراه في القانون من جامعة هارفارد، وكان مهووساً بتأليف الكتب التاريخية والروايات، وكان يستهويه الرسم، كوسيلة للتخلص من الاكتئاب، الذي قيل إنه صاحبه في بعض مراحل حياته، لكن من يتمعن في لوحاته المعروضة في متحف نوبل، لا يجد أي علامة تدل على الاكتئاب.
}} بدأ تشرشل هواية الرسم، خلال الحرب العالمية الأولى، وغلب على لوحاته طابع الطبيعة، وكان يرسمها بالزيت خلال رحلاته الخاصة، وقضاء «عطلاته»، في جنوب فرنسا وإسبانيا والمغرب ومصر، ولم يتوقف عن الرسم إلاّ خلال الحرب العالمية الثانية، ولم يرسم في تلك السنوات إلاّ لوحة واحدة. وشملت لوحاته مناظر طبيعية، كالغيوم وغروب الشمس وشروقها، والمطر والعواصف والبحيرات، وكذلك القصور التاريخية في إنجلترا وفرنسا، والأهرام المصرية، و«بورتريهات» لرجال ونساء وغيرها.
}} وحظي مجلس العموم البريطاني، بلوحة تعبّر عن «منظر الشاطئ قرب مدينة كان»، مرسومة في عام 1935، وفي «غرفة الحرب» الخاصة بتشرشل، بقيت لوحة تعبّر عن «كوخ في نادي ميامي لركوب الأمواج» مرسومة في عام 1946.
}} وأنتج تشرشل أكثر من خمسمئة لوحة زيتية، وظل يمارس هوايته حتى بلغ الثمانينات من العمر، وقد ساعدته هذه الهواية التي بدأها منذ عام 1915، على مده بطاقة إيجابية متجددة، مكّنته من مواجهة عواصف السياسة، وتحديات الحروب. وفي مطلع هذا العام، أحيت بريطانيا ذكرى مرور نصف قرن على وفاة هذا الجنرال والسياسي والفنان والكاتب، وخصصت ابنته (وهي آخر أبنائه الخمسة) قبل وفاتها، سبعاً وثلاثين لوحة لمؤسسة التراث الوطني البريطاني، وقدر ثمنها بنحو أربعة عشر مليون دولار، وذلك بدلاً من ضرائب مستحقة على عائلة تشرشل.
}} جنرال... لكنه رسّام.
}} شخصية أخرى استثنائية، أمضى أكثر من نصف عمره يكتب ويحاضر ويناقش ويجادل في جميع أنحاء العالم. اخترق الثقافة الأمريكية، وفكك الظاهرة الاستعمارية، بأبعادها الثقافية، وأدرك بوعي علمي آلياتها ومرجعياتها، ترك بصماته على الفلسفة السياسية والثقافية في القرن العشرين، وعلى الدراسات الأنثروبولوجية، ووضعه فلاسفة غربيون ضمن عشرين شخصية عالمية في النقد الأدبي والثقافي والاستشراق.
}} في عام 1984، دعيت لحضور فيلم سينمائي، يتعرض للقضية الفلسطينية، واسمه (الفتاة الصغيرة، قارعة الطبلة)، وجرى عرض الفيلم في قاعة السينما بمركز الرئيس جون كنيدي للفنون، في العاصمة الأمريكية، والذي يقع على مقربة من الفندق الشهير (ووتر جيت)، وعلى مسافة قصيرة من مبنى وزارة الخارجية الأمريكية.
ويحكي الفيلم المقتبس من كتاب يحمل الاسم نفسه لمؤلفه البريطاني الشهير (جون لوكاريه)، وهو المؤلف الخبير في آليات عمل الاستخبارات في العالم، يحكي قصة فتاة بريطانية، يستدرجها جهاز الموساد «الإسرائيلي»، في محاولة لتوظيفها، في خطة لاغتيال أحد قادة العمل الفدائي الفلسطيني في الخارج. يقدم الضابط «الإسرائيلي» نفسه للفتاة كفلسطيني، ويعيش معها ويدربها بهذه الصفة، ويشرح لها قضية فلسطين، لكنه في مرحلة ما، يخبرها بحقيقته وأنه «إسرائيلي» ويعمل مع الموساد، عندها لم تعد تعرف تلك الفتاة، هل أحبته أم أحبَّت الفلسطيني فيه، وفي نهاية الأمر تدخل في اللعبة الاستخبارية، وتستدرج القائد الفدائي، ولتجد الفتاة في هذا الإنجاز، ذروة الغرام بفلسطين، وفي اللحظات الأخيرة تحاول أن تستدرك فعلتها فتدرك أنها ضحية لعبة أكبر منها.
}} إثر انتهاء الفيلم، صعد إدوارد سعيد إلى المنصة وتحدث أمام عدد كبير من النقاد والصحفيين والجمهور، عن الفيلم والمخرج، وعن صاحب القصة الأصلية ومؤلفها، شمل حديثه رؤية نقدية وفنية عميقة، ومقارنات ووصفاً دقيقاً للظلال والإضاءات والمعاني، التي أرادها المؤلف والمخرج.
}} لم أصدق، أن إدوارد سعيد، هذا المفكر والأكاديمي والسياسي والفيلسوف، يمتلك أدوات النقد السينمائي ومناهجه، وعلى اطلاع علمي بصناعة السينما.. وليكتمل المشهد... انتقل بعض المدعوين إلى قاعة أخرى، واستمعوا إلى إدوارد سعيد، وهو يعزف على البيانو.
}} في أمريكا، يتباهى العربي الأمريكي بإدوارد سعيد المولود في القدس، ويصعب اختزاله في حقل واحد من حقول الأدب أو الفلسفة أو السياسة، وقد ترجم كتابه عن «الاستشراق» الصادر في عام 1978، إلى أكثر من 26 لغة، وألَّف 18 كتاباً، وسجل سيرته الذاتية في كتاب (خارج المكان)، لامس فيه أعماق النفس البشرية.
}} وقلة من الجمهور، وربما من المثقفين أيضاً، تعرف أن الموسيقى كانت جزءاً أساسياً من حياة إدوارد سعيد الثقافية والشخصية، وأصدر كتباً في هذا المجال، من بينها: (نظائر ومفارقات استكشافات في الموسيقى والمجتمع). وكانت الموسيقى ملاذه من السياسة، ووظفها لخدمة فكرة السياسي في التعايش بين الأديان.
}} يقول إدوارد سعيد، في أحد كتبه (خارج المكان)، «إنه اقتحم عقبة دروس الموسيقى في جامعة برنستون، ودرس بتهوفن وفاغنر وغيرهما» ورأى في كتبه عن الموسيقى (كتاب موسيقى بلا حدود، وكتاب توضيحات موسيقية)، «أن جوهر الموسيقى لا ينفصل عن النشاط الاجتماعي». وقد عشق إدوارد سعيد الموسيقى الكلاسيكية. وانتقد بعنف ممارسات الاحتلال «الإسرائيلي». حينما استخدم هذا الاحتلال الموسيقى الكلاسيكية، عبر مكبرات الصوت، وتوجيهها عبر السجون والمعتقلات، كنوع من الضغط العصبي على المساجين الفلسطينيين، واستفزه هذا الربط بين الموسيقى والاعتقال والتعذيب على أنغام موسيقى صاخبة، وهو أسلوب مماثل لأساليب النازية، حينما استخدمت موسيقى (فاغنر) في السجون.
}} في عام 1990، وقبل إصابته بمرض سرطان الدم، زار إدوارد سعيد الفنانة الراقصة (تحية كاريوكا)، وكتب عنها مقالاً، تحدث فيه عن «أسطورة الرقص الشرقي» وعن (إيقاعها المسموع والمرئي)، ورأى فيه قضية ثقافية واجتماعية، وفسَّّر الجانب الجمالي والفني في رقص تحية كاريوكا.
}} سألها إدوارد سعيد، عندما زارها: «كم مرَّة تزوجت يا تحية»؟ رمقته بنظرة حادة، فسَّرها إدوارد سعيد بأنها تعني «ثم ماذا»؟ وفي أيامها الأخيرة، عاشت، كما يقول إدوارد سعيد، «حياة هادئة من دون ضجة وشهرة»، وتحجبت وتدينت، وأدت مناسك الحج.
}} ويروي الدكتور (محمد جامع)، أن تحية كاريوكا، شاهدت الشيخ محمد متولي الشعراوي، وسط الزحام في المدينة المنورة، فاتجهت إليه ونادته عدة مرات، فلم ينظر إلى وجهها ولم يعرفها، فقالت له بصوت مرتفع: «انظر إلى وجهي وستعرفني يا شيخ شعراوي». فقال لها: «أنا لا أعرفك». فقالت له: «أنا تحية كاريوكا أريد أن أسلّم عليك وتدعو لي» فقال لها رحمه الله بكل دماثة خلق وطيب في القول: «لو عرفت أنك أنت، التي تنادي عليَّ كل هذه النداءات، لتوجهت إليك «رأساً.. لا رقصاً».. وأخذ يدعو لها وهي تبكي.
}}إدوارد سعيد المفكر والفيلسوف.. والفنان الموسيقي أيضاً.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"