لا حداثة من دون إصلاح ديني جذري

03:47 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. علي محمد فخرو

لنمعن النظر في موضوعي الدّين الإسلامي والحداثة كمدخلين أساسيّين للتجديد الحضاري في دنيا العرب.
أمّا الدين الإسلامي فهو ليس ديناً فقط، وإنما تاريخ صاعد وهابط عبر القرون الطويلة أيضاً، وثقافة وعادات وسلوك وقيم وفلسفة، وعلم كلام وممارسات روحيه صوفية، وتعبيرات فنية وأدبية ومعمارية. وكل ذلك نتج عن قراءات وتفاسير وفهم للوحي والنصوص الأصلية، بأفهام ومشاعر متباينة ومصالح دنيوية متضاربة.
في ذلك المشهد المترامي الأطراف أسّست مدارس فقهية مذهبية متباينة متصارعة لضبط المشهد، وقامت مدارس كلامية وفلسفية لتحرير المشهد وعقلنته. لقد تميزت تلك المدارس بما لها وماعليها، أما اليوم فنحن أمام مدارس عبثية مجنونة، تحت مسمّيات من مثل «داعش» و«النصرة» وغيرهما، تقوم بصورة منهجية بتدمير كل منجزات ذلك المشهد الديني والحضاري، وغمسه في وحول البربرية التي تغضب الرب وتدنّس الإنسانية.
أما الحداثة التي كثر وطال اللّغط من حولها فإنها، بعكس مايُعتقد، حركة في سيرورة وتكوّن، وليست نموذجاً ثابتاً وجاهزاً. فقيم ومبادئ الحداثة المطروحة من قبل أوروبا منذ قرون عدة، من مثل الحرية والمساواة والديمقراطية والفردية شبه المطلقة، والتقدم والعقلانية، والنظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية التي نتجت عن تطبيق بعض القيم والتي وصلت اليوم إلى ذروتها في شكل نيوليبرالية رأسمالية عولمية بالغة التوحّش والظلم.. هذه القيم والنظم تحتاج إلى المراجعة والإنضاج والتعديل والضبط الأخلاقي، وهي بالفعل تحت المراجعة حتى من قبل من أسّسوها ونشروا أفكارها وتطبيقاتها.
هنا نصل إلى النقطة المفصلية، فإذا كان العرب جادّين في محاولتهم، التي بدأت منذ قرنين في شكل مشاريع نهضوية متعثرة، كما بيّنا في مقال الأسبوع الماضي، إذا كانوا جادّين في محاولة التحديث وبناء حداثتهم الذاتية، غير المتصارعة مع حداثات الآخرين، بل مكملة لها ومحسّنة لبعض جوانبها، فإن تلك المحاولة ستفشل إن لم تصاحبها، يداً بيد، محاولة جادة عميقة لتحليل ونقد وتجاوز وتحديث كل ذلك الإرث الثقافي، بما فيه الفقهي كله (من دون استثناء المدرسة)، والفكري والتطبيق في الواقع عبر القرون، الذي بُني وتراكم وتشوّه حول النصّ الإسلامي الأصلي.
لسنا هنا معنيّين بما سيؤخذ أو يعدّل أو يترك من الإرث الثقافي - الفقهي الإسلامي، أو من الإرث الحداثي، ولكننا معنيون إلى أبعد الحدود بمن سيقوم بالمهمّة الأولى، وتحت أي مظلّة ستتم المهمة، لأنّها المهمة الأصعب والأكثر استثارة لغضب فقهاء السلاطين وفقهاء المصالح.

هناك دلائل على أن من بدأ بالفعل بالقيام بهذه المهمة هم أصحاب المدرسة الكلامية الجديدة الذين يحاولون الانتقال بعلم الكلام الإسلامي الذي بدأه المعتزلة في القرنين الثاني والثالث الهجري، إلى علم كلام إسلامي حديث يستخدم مناهج وأدوات علوم المعرفة الحديثة ولغتها التفكيكية والتحليلية. إنه علم لا يهتم بقضايا من مثل صفات الله والقرآن أو أزليته فقط، كما فعل المتكلمون القدامى،لكنّهم، وبقوة وعمق، معنيّون بقضايا المجتمع المدني وفاعليته، بحقوق الإنسان في عصره الحديث، يربط الإنسان المسلم بالوحي الإلهي من خلال العقل والتجارب الروحية العميقة، بالتأمل الديني المتجدّد، باستنباط مواقف من فنون العصر وممارساته الاقتصادية وتطوراته الطبية والبيولوجية والنفسية.
وهم لايتردّدون في الاستفادة من الفكر الفلسفي الحديث ونظريات أقطابه، ومن منجزات العلوم الاجتماعية اللسانية والفلكية من أجل ربط الدين بمتطلبات العصر الحديث، ومن أجل الفكاك من أسر المعرفة الفقهية التي تجمدت عبر العصور. هؤلاء يمثّلون مجموعة من المفكرين العرب والمسلمين المبدعين يمتد تواجدهم من الهند شرقاً حتى المغرب العربي غرباً، من أمثال طه عبدالرحمن ومحمد حسين فضل الله وحسن جابر في بلاد العرب، وعبدالكريم سروش والمرحوم علي شريعتي في إيران، وغيرهم كثيرون ويزدادون عدداً وتأثيراً.
أفراد هذه المدرسة الكلامية الجديدة، المنفتحة على علوم العصر وأدواته، المهمومة بإصلاح الثقافة الفقهية الإسلامية، يهيئون لمصالحة تاريخية بين الوحي الإلهي الحق من جهة، والمفيد الكثير من أفكار وأنظمة الحداثة، التي هي الأخرى تقودها كوكبة مبهرة من المفكرين العرب والمسلمين.
لن يبقى بحر العرب الإسلامي آسناً راكداً بعد الآن، بالرغم من العفن والجنون الذي يبشر به الجهاديون التكفيريون.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"