من تصدير الديمقراطية إلى مصادرتها

02:48 صباحا
قراءة 5 دقائق

بين نهاية العام الفائت ويومنا هذا، استأثرت الانتخابات التي جرت في كينيا وباكستان وأخيراً في زيمبابوي باهتمام عالمي. فللدول الثلاث أهمية خاصة عند المعنيين بانتشار المبادئ والممارسات الديمقراطية في العالم. كينيا تعتبر من الدول الإفريقية الأقرب تمثلاً بالمعيار النسبي بالنظم الديمقراطية من غيرها من الدول الإفريقية. وزيمبابوي استقلت وتحولت من كيان تحكمه أقلية عنصرية بيضاء إلى دولة تحكمها أكثرية أهلها سواء من السود أو البيض نتيجة كفاح خاضه شعبها من أجل الاستقلال وإلغاء التمييز العنصري وتطبيق المبادئ الديمقراطية. وللتجربة السياسية في البلدين تأثير على التجارب السياسية في دول إفريقية أخرى. وباكستان تعيش حالة تجاذب مستمر بين نظم الاستبداد ونظم الانفتاح النسبي والاستعداد للتحول الديمقراطي. وللتجربة السياسية الباكستانية كما هو الأمر مع كينيا وزيمبابوي أهمية وتأثير على دول الجوار وعلى الدول الإسلامية بصورة عامة.

في الحالات الانتخابية الثلاث، طغت مشاهد التوتر والعنف والشقاق، على مظاهر الانتقال إلى الديمقراطية والتوطيد الديمقراطي. ففي باكستان طغى مشهد اغتيال بينظير بوتو، رئيسة الحكومة الباكستانية السابقة وزعيمة الحزب الأقوى في البلاد، أي حزب الشعب، على كل حدث آخر. وتحولت المناسبة الانتخابية من حدث ديمقراطي، إلى فصل آخر من فصول التردي السياسي في حياة باكستان. وفي كينيا أسفرت الانتخابات عن تراجع الديمقراطية حيث إن الحزب الحاكم رفض التسليم بنجاح المعارضة في الاستفتاء الانتخابي. ويتكرر نفس الأمر في زيمبابوي حيث يبدو موغابي مصمماً على التمسك بالسلطة حتى ولو كلف ذلك بلده الدماء والخسائر الاقتصادية الكبرى.

تندرج هذه التجارب الانتخابية والنتائج المثيرة للقلق التي أسفرت عنها في إطار ما يعتبره البعض نهاية الموجة الديمقراطية الثالثة التي توقعها عالم الاجتماع الأمريكي صموئيل هانتغنتون. ولقد حققت هذه الموجة تحولات ديمقراطية ملموسة في أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية وشرق آسيا. بيد أن أثرها، كما يرى هؤلاء، كان ضعيفاً في المنطقتين العربية والأوسطية وكذلك في القارة الإفريقية. وكما توقع هانتغنتون نفسه، فإن التقدم الذي تحقق خلال الموجة الثالثة قد لا يستمر وإنما قد تعقبه تراجعات. والأرجح أن تحدث هذه التراجعات أيضاً في المنطقتين العربية والأوسطية والقارة الإفريقية. فما الأسباب ومن المسؤول عن تعثر التحولات الديمقراطية في العالم؟

يعدد المعنيون بهذه التحولات الكثير من الأسباب لتفسير ظاهرة العجز الديمقراطي في المناطق الثلاث. ومن أهم هذه الأسباب السلوك السياسي للقوى المحلية والدولية التي تؤثر بصورة مباشرة على مصير الدول المعنية وعلى نظمها السياسية. فالنخب السياسية في دول هذه المناطق تجنح، كما أظهرت انتخابات زيمبابوي وكينيا وباكستان، نحو الاستئثار بالسلطة وترفض فكرة تداولها وهي قاعدة أساسية من قواعد الحياة الديمقراطية. بالمقارنة فإن الانتقال إلى النظام الديمقراطي يقضي بعكس هذا المسار. إنه يقضي أولاً بالاعتراف بالتعددية السياسية وبحق الآخرين الذي لا يمارى فيه بدخول السلطة وبممارسة الحكم. كذلك يقضي أيضاً باقتناع الأطراف الحاكمة والمعارضة معاً بضرورة تقديم التنازلات حينما تكون هناك حاجة ومسوغ وطني وديمقراطي عام للقيام بذلك.

تمثل عملية الانتقال من الحكم المطلق إلى الحكم الديمقراطي في إسبانيا نموذجاً على السلوك الذي سلكته النخبة السياسية في مدريد حتى تمكنت من اجتياز التحولات الديمقراطية بنجاح. ولقد تساوت على هذا الصعيد أهمية سلوك النخبة الحاكمة مع سلوك النخبة المضادة أو المعارضة. فالأحزاب المعارضة تمكنت من توحيد صفوفها ومن الاتفاق على برنامج للتحول الديمقراطي ما مكّنها من تعزيز قدرتها على ممارسة ضغط فعال للوصول إلى النظام الديمقراطي المنشود. بالمقابل، فإن الجناح المعتدل داخل النخبة الحاكمة والذي كان يمثل فئة رجال الأعمال والكنيسة الكاثوليكية وجيل الشباب وأنصار الحكم الملكي تمكن من استلال المبادرة من الجناح المتطرف الذي يمثل المتشددين من رجال الجنرال فرانكو ومن حزب الكتائب الإسباني.

وتطورت العلاقة بين الفريقين تطوراً ملموساً على يد زعيم المعارضة فيليب غونزاليس وزعيم الجناح المعتدل داخل الحكم الفريدو سواريز، فتم التفاهم بينهما على التنازلات المتبادلة ومنها إطلاق الحريات الحزبية وحل حزب الكتائب مع التعهد بعدم التعرض لأعضائه وبتأييد النظام الملكي. وتطورت الاتصالات التي كانت تعقد في الخفاء بين الزعيمين بحيث شملت أيضاً خوان كارلوس الذي كان يتأهب لتولي العرش الإسباني، وتكرست في علاقة صداقة متينة بين الزعماء الثلاثة لعبت دوراً في إحباط المحاولات التي قام بها أنصار فرانكو بعد وفاته من أجل القضاء على النظام الديمقراطي.

تفتقر الدول الثلاث التي جرت فيها الانتخابات وبعض الدول الأخرى في إفريقيا والدول العربية والأوسطية إلى هذا النوع من النخب والقيادات السياسية. وفضلاً عن ذلك فإن هذه الدول وغيرها من الدول التي تجاوزتها الموجة الثالثة تفتقر إلى المناخ الدولي الملائم، فالدعوة إلى نشر الديمقراطية على الصعيد العالمي أخذت تفقد الكثير من ألقها واندفاعها. البعض يقر بهذا التراجع ولكنه يعتبر أن في الأجواء الدولية ما يبشر بولادة موجة رابعة وقريبة للتحول الديمقراطي في ما تبقى من دول العالم.

مجلة الايكونومست الانجليزية التي تتبنى هذا الرأي الأخير تجد أن موقف الولايات المتحدة تجاه تصدير الديمقراطية هو الضمانة الكبرى على هذا الصعيد وذلك لأن الدعوة للديمقراطية على الصعيد العالمي هي أمريكية بمقدار ما فطيرة التفاح هي أمريكية (29/03/08)! وتضيف الايكونومست المناصرة لإدارة جورج بوش أن الاستفتاءات الأخيرة تدل على أن أكثرية الأمريكيين تؤيد استمرار الإدارات الأمريكية المقبلة في سياسة نشر الديمقراطية في العالم.

بيد أن المعضلة الكبرى هنا ليست في نظرة الأمريكي العادي إلى مسألة تصدير الديمقراطية ولكن في نظرات وأداء إدارة بوش في هذا المضمار. فسياسة بوش ومواقفه على الصعيد الدولي أدت إلى إثارة ردود فعل سلبية وعاصفة ضد واشنطن ليس في المنطقة العربية والأوسطية وفي إفريقيا فحسب، وإنما أيضاً في مناطق كثيرة أخرى في العالم. ولم تنحصر ردود الفعل هذه في النقمة على سياسة بوش فحسب، وإنما سرعان ما تحولت إلى موقف تجاه الولايات المتحدة نفسها. وإذا كان تصدير الديمقراطية هو فعلاً فطيرة أمريكية. فإن الكثيرين باتوا أميل إلى الاعتقاد بأنه إذا كان تطبيق الديمقراطية، على طريقة جورج بوش فسوف تحول بلادهم إلى عراق آخر. الرئيس/ الرئيسة الأمريكي الجديد سوف يتمكن إذا أراد أن يحول بلاده إلى داعم للتحولات الديمقراطية في العالم ولكن مهمته سوف تكون شاقة على هذا الصعيد. عليه أن يبذل جهداً كبيراً من أجل تخليص بلاده والعالم من التركة البوشية البائسة التي أدت إلى مصادرة الديمقراطية في أصقاع كثيرة من العالم بدلاً من استيرادها.

* كاتب لبناني

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"