قرار خاطئ ومتسرّع

03:51 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود الريماوي

جاء خبر الانسحاب الأمريكي من منظمة اليونيسكو مؤسفاً ومفاجئاً. فلم يسبق للولايات المتحدة أن انسحبت من منظمة دولية تابعة للأمم المتحدة. ويعتبر هذا الموقف على درجة من الغرابة، إذ إن الأسباب التي تم سوقها لتبريره لا تشمل ما ينمّ عن تعريض المصالح الأمريكية للخطر داخل هذه المنظمة الدولية. وبهذا فإن أمريكا ليست متضررة بصورة مباشرة أو مفترضة حتى تسوغ موقف الانسحاب. والسبب الرئيسي الذي تم إيراده هو ما اسماه بيان وزارة الخارجية الأمريكية بهذا الصدد: «استمرار الانحياز ضد «إسرائيل» في اليونيسكو». وبهذا فإن دولة عضواً في هذه المنظمة الدولية، قد انسحبت منها لأمرٍ لا يتعلق بها.. بل بدولة أخرى. وهو أمر يثير الدهشة حقاً، فأمريكا والدولة العبرية عضوان بصفة منفصلة لكل منهما، وليست هناك على أية حال عضوية ثنائية أو مزدوجة ضمن اليونيسكو أو غيرها من المنظمات الدولية تضم عضوين معاً.
في واقع الأمر إن قرارات اليونيسكو بشأن الأراضي المحتلة أو بخصوص شعب فلسطين تستند في غالبيتها إن لم تكن جميعها إلى قرارات المنظمة الأم وهي الأمم المتحدة، التي تعتبر موئل الشرعية في عالمنا. وكان على واشنطن انسجاماً مع موقفها هذا أن تنسحب من المنظمة الأصل، لا من الفرع فقط. وهذا غير قابل للتخيل.
لقد سبق أن وجهت واشنطن انتقادات للأمم المتحدة وارتفعت وتيرة هذه الانتقادات في عهد الرئيس الحالي دونالد ترامب. ومن حق أمريكا كما غيرها من الدول الأعضاء تسجيل التحفظات والجهر بها، إذ إن كثيراً من القضايا العادلة للشعوب لم تجد صدى إيجابياً لها في أروقة الأمم المتحدة وعلى منابرها وضمن قراراتها، ومن آخر هذه القضايا مأساة جماعات الروهينجا في ميانمار (بورما سابقاً)، فقد وقفت الأمم المتحدة تتفرج على اقتلاع مئات الألوف من بيوتهم وتشريدهم وتعريضهم لمختلف أشكال المخاطر. غير أن ذلك كله لا يعني اتخاذ موقف سلبي قاطع من هذه المنظمة يصل إلى حد الانسحاب أو التفكير به. ففي نهاية المطاف فإن هذه المنظمة تعكس إرادة الدول الأعضاء، وهي ليست مستقلة عن هذه الدول، أو أنها قائمة بذاتها بمعزل عنهم.
كذلك الحال في اليونيسكو، فمنظمة التربية والثقافة والعلم (أنشئت في العام 1945 بالتزامن تقريباً مع نشوء عصبة الأمم وهذه العصبة هي الصيغة الأولى للأمم المتحدة)، تجسد إرادة أعضائها البالغ عددهم 195 دولة وهو عدد يضاهي عدد الدول ذات العضوية في الأمم المتحدة. ومغزى ذلك أن منظمة اليونيسكو تتمتع بمكانة رمزية ومعنوية لا نظير لها بين منظمات الأمم المتحدة ووكالاتها. وإدارة الظهر لهذا المحفل الدولي الكبير، تعني استخفافاً بالمجتمع الدولي وبالأسرة البشرية الممثلين فيها. وكان المنطق يقضي وما زال بأن تتمسك الدول الكبرى والمتقدمة بالمؤسسات الدولية كونها تعكس صورة مميزة للتعاون الدولي، لا أن تستخف بها وتبث رسالة ضمنية مضمونها أن العضوية في هذه المنظمات أو الخروج من عضويتها.. سيّان!. فذلك يعطي صورة سلبية عن مدى التمسك بمبدأ التعاون الدولي.
لقد أشار بيان الخارجية الأمريكية بالمناسبة إلى سببن آخرين للانسحاب هما: تزايد ديون اليونيسكو، وضرورة إجراء إصلاحات جذرية في المنظمة. والحال أن هاتين المسألتين تتطلبان وجود الولايات المتحدة في عضوية اليونيسكو من أجل معالجة مسألة الديون (نحو 329 مليون يورو كما أشارت مصادر متواترة) بطريقة شفافة وناجعة، وإجراء الإصلاحات التي يتم التوافق بشأنها داخل هذه المنظمة المنوط بها حفظ التراث الإنساني باعتباره ذخراً للبشرية. علماً أن تنفيذ قرار الانسحاب يبدأ مع نهاية العام الجاري، على أن تبقى الولايات المتحدة عضواً مراقباً في المنظمة.. وهو ما يحمل على الاعتقاد بأن هناك فرصة لمراجعة هذا القرار المؤسف والمتسرع الذي يلحق الضرر بهذه المنظمة الدولية، كما يمس صورة الولايات المتحدة كدولة عظمى تؤمن بالتعاون الدولي.
أما قرار «تل أبيب» بالإقدام على اتخاذ خطوة مماثلة للخطوة الأمريكية، فإن ما يستحق التعليق بشأنه حول هذا الموقف، هو أن الدولة العبرية لا تستحق عضوية اليونيسكو أساساً، فلطالما ضربت بقرارات هذه المنظمة عرض الحائط، وواصلت استباحة المقدسات والعبث الخطير بمعالم مدينة القدس وإرثها العمراني والتاريخي. إن السجل الأسود لدولة الاحتلال في التمييز المشين ضد الثقافات غير اليهودية، وضد تراث الشعب الفلسطيني في وطنه التاريخي، يجعلها غير مؤهلة للانضمام إلى اليونيسكو، فكل ما تسلكه يناقض روح اليونيسكو وميثاقها وأهدافها، ما يجعل وجودها خارج المنظمة الدولية، بمثابة وضع للأمور في نصابها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"