حرب خنادق في قمة العشرين

04:18 صباحا
قراءة 4 دقائق
د .غسان العزي
اجتمع قادة دول جماعة العشرين الذين يمثلون خمساً وثمانين في المئة من الاقتصاد العالمي، في مدينة بريزبين شرقي أستراليا، من أجل الاتفاق على حلول لمسائل تهم البشرية جمعاء . هذا من الناحية المبدئية، لكن من الناحية العملية، وكما يحصل عادةً في الاجتماعات الدولية الكبرى، سيطرت المصالح الخاصة والأنانيات الوطنية على الرؤية المشتركة لمصير إنساني واحد . بل تحول الاجتماع إلى ما يشبه حرب خنادق، على حد تعبير الرئيس أوباما، بدايةً بين الزعماء الغربيين من جهة والرئيس الروسي بوتين من الجهة المقابلة، وتالياً بين الزعماء الغربيين أنفسهم .
منذ البداية خرق رئيس الوزراء الأسترالي المضيف توني أبوت قواعد الضيافة بتوجيهه سهام الانتقاد الحادة إلى الرئيس بوتين . وجاء دور أوباما ليتهم نظيره الروسي بخرق القانون الدولي في أوكرانيا ويدعو إلى "مواجهة الاعتداء الروسي عليها والذي يشكل تهديداً للعالم" . ثم زايد عليه رئيس الوزراء البريطاني كاميرون واصفاً روسيا بأنها "دولة كبرى تعتدي على الدول الصغرى في أوروبا" . ورفع رئيس الوزراء الكندي من المزايدات بالتوجه إلى بوتين قائلاً "سوف يتوجب عليّ أن أصافحكم،ولكن أقول لكم أخرجوا الآن من أوكرانيا"، فرد عليه بوتين بالقول "مستحيل لأننا لسنا في أوكرانيا كي نخرج منها" .
المستشارة الألمانية ميركل كما الرئيس الفرنسي هولاند كانا الأكثر اعتدالاً . فالأولى ترتبط بلادها بمصالح اقتصادية مع روسيا فتستورد منها أربعين في المئة من الغاز الذي تستهلكه . والثاني يرتبط بعقد موقع في العام 2011 يفترض على باريس بموجبه أن تسلم إلى موسكو حاملتي هليكوبتر من نوع "ميسترال"، واحدة مع نهاية الشهر الجاري والأخرى في العام المقبل . وقد قبضت فرنسا في العام 2011 ثمن السفينتين والبالغ 2،1 مليار يورو . وإذا لم تحترم العقد فتسلم السفينة الأولى والتي أطلق عليها الروس اسم "فلاديفوستوك" فإنها قد تتعرض إلى ملاحقات مالية من قبل روسيا التي يحق لها عندئذ الغاء العقد . والرئيس هولاند يتعرض إلى ضغوط داخلية في اتجاه احترام توقيع فرنسا، وخارجية أمريكية بالتحديد في اتجاه احترام العقوبات الاقتصادية المتخذة بحق روسيا .
اجتمع هولاند مع بوتين على هامش القمة من دون الكلام عن صفقة الميسترال، وخرج من الاجتماع ليقول إنه سيتخذ قراره في هذا الموضوع "بعيداً عن كل ضغط أياً كان مصدره (المقصود واشنطن بالطبع)، ووفقاً لمعيارين هما مصلحة فرنسا وتقديري للوضع" . ولفت إلى أن الوقت لا يشكل ضغطاً (أي يمكن التفاوض مع روسيا لتأجيل التسليم بعض الوقت فلا يموت الذئب ولا يفنى القطيع) وأن "باريس ملتزمة حالياً بالقواعد المحددة في العقد، لذلك ليس ثمة مشكلة تعويضات حالياً" يفترض أن تدفع إلى موسكو إذا لم تتسلم السفينتين الحربيتين . ويراهن هولاند على تفهم بوتين لموقفه والضغوط التي يتعرض لها فيعطيه المزيد من الوقت للتوصل إلى مخرج، لاسيما أن بوتين يحتاج في هذا الوقت إلى أصوات معتدلة في الصف الغربي . والصوتان الفرنسي والألماني مؤثران في القرار الأوروبي .
من جهتها، أنجيلا ميركل كانت قد وعدت الرئيس الاوكراني بترو بوروشنكو عشية القمة، بأن هذه الأخيرة سوف تتمحور حول الأزمة الأوكرانية، وهذا ما حصل . لكن ميركل كانت قد أعلنت، في 11 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، بأنه ينبغي التركيز على التوصل إلى هدنة جديدة وليس إلى عقوبات اقتصادية جديدة . وكانت في القمة صوتاً معتدلاً رغم تصريحها بأن أوروبا ستفرض عقوبات جديدة على "شخصيات روسية" (وليس على روسيا . .) .
إضافة إلى ذلك برز خلاف واضح بين الغربيين حول الموضوع البيئي . فعلى سبيل المثال أعلن رئيس الوزراء الأسترالي، والذي وصل إلى السلطة في سبتمبر/أيلول 2013 فألغى الضريبة على أرباح منتجي الفحم الحجري، بأنه لا يهتم بما سوف يحصل بعد ستة عشر عاماً، في إشارة إلى الاتفاق الصيني الأمريكي حول تخفيض الانبعاثات الغازية بنسبة 62-82 في المئة من هنا للعام 2030 . والمعلوم أن اتفاقاً تاريخياً وقعه الرئيسان أوباما وكسي جينبينغ في هذا الصدد عشية القمة التي أراد أوباما الظهور فيها كقائد عالمي للبيئة ففرض هذا الموضوع فرضاً رغم معارضة البلد المضيف . كذلك كان هناك خلاف مع اليابان حول فرض قواعد للشفافية المالية في المعاملات الدولية وعمل المصارف وغيرها، فضلاً عن التعتيم الذي حصل على موضوع محاربة "داعش" ودعوة المزيد من الدول، لاسيما تركيا، للانضمام إلى هذه الحرب بصورة فاعلة . فالهجوم على بوتين هو الذي خطف الأضواء .
هذا الأخير ترك القمة قبل انتهائها تاركاً لمساعديه التعليق على غداء العمل الذي يجمع زعماءها بأنه "ثرثرة لا طائل منها" . وخرق البروتوكول بعقده مؤتمراً صحفياً قبل زعيم البلد المضيف الذي عادةً ما يعلن عن نتائج القمة في مؤتمر صحفي يعقده في ختامها . وعلى الرغم من بعض الايجابيات المتعلقة بالاتفاق على صندوق مشترك لمكافحة مرض الإيبولا وما قد يطرأ من أمراض خطرة معدية، والاتفاق على دعم النمو العالمي بنسبة اثنين في المئة، فإن هذه القمة، بحسب الصحف الأسترالية والروسية على الأقل، كانت تعبيراً عن مشهد دولي طابعه الفوضى والسير قدماً نحو حرب باردة جديدة .
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"