سلطان . . وحماية الذاكرة

03:57 صباحا
قراءة 5 دقائق
د . يوسف الحسن
النصب التذكاري لمقاومة خورفكان، للغزاة في القرن السادس عشر، الذي دشنه قبل أيام صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، هو زرع لبذرة حسُّ التاريخ عند الأجيال الناشئة، وكأني بسلطان يقدم لهذه الأجيال مفتاحاً سحرياً يفتض الكثير من الأقفال، التي أغلقت على حكايا شعبية باسلة، وبطولات إنسانية في مقاومة الغزاة، المدججين بالأساطيل والبارود والخبث الاستعماري والاستباحة والقرصنة .
النصب التذكاري للمقاومة، ليس بهدف التسلية والسياحة وإنما للعبرة والدرس، واستحضار مفاهيم إيجابية، سبق لها أن تجسدت في بشر ومجتمعات .
هل كان تاريخ المنطقة، منذ خمسة قرون، مجرد تاريخ داجن . لا صراع فيه ولا جدل؟ هل يصح استمرارنا بتصفح تاريخ المنطقة قبل قيام الاتحاد، بشكل أفقي ومختزل؟
ماذا يعرف الأبناء والأحفاد، من تاريخ الغزوة البرتغالية لبلادهم، غير بضعة سطور في مناهجهم الدراسية، على مثال: "جاء البرتغاليون، وبنوا قلاعاً، ومروا هنا ثم غادروا"! وفي أحسن الأحوال، قد يقرأون أن: "اليعاربة حرروا المنطقة من البرتغاليين" .
إن الحفيد الحالي، في مدن خورفكان أو رأس الخيمة أو دبا أو دبي أو أبوظبي . . الخ، هو الشهادة الحية على وجود الأب والجد . وجد الجد، على امتداد الزمن الماضي، عبر أكثر من عشرة أجيال على الأقل .
هذه هي البداية، التي أبدع فيها الشيخ الدكتور سلطان، لمساعدة الأجيال على فهم تاريخها وإنسانيتها، لم يقدّم سلطان هذه الفكرة، كأيقونة تاريخية لتعجب بها، بل لتحريك شرايين الانتماء، والبطولة في وجدان الناس، وإحياء روح احترام الحياة، وتقديس الأوطان، وتثمينها عالياً من جديد، بدلاً من الاكتفاء باستعمالها كمورد رزق .
ماذا يعرف الجيل المعاصر عن الغازي (البوكيرك) البرتغالي؟ ومن جاء بعده من غزاة؟ ماذا يعرف الجيل المعاصر عن أصل وحقيقة الأعلام التي فرضتها بريطانيا على جميع المشيخات في القرن التاسع عشر، واستمرت مرفوعة حتى مطلع سبعينات القرن العشرين؟
وماذا يعرف هذا الجيل، عن معاهدات الإكراه المفروضة على المنطقة، من قبل قوى بريطانيا العظمى في ذلك الوقت، بدءاً من اتفاقية 1820م، وهي المعاهدات التي قوَّت القبضة البريطانية، وسلبت من شعب المنطقة، جانباً مهماً من سيادته على وطنه، وقيدت حركته، وأعاقت نموه طويلاً، وعزلته عن التطور الذي كان جارياً في العالم من حوله .
تتحدث الوثائق البريطانية نفسها، عن قصة البوارج الحربية التي شنت هجوماً على دبي، في ديسمبر/ كانون الأول 1910م بحجة التفتيش عن الأسلحة، واصطدمت مع أهل دبي في الشوارع، وبلغت خسائر دبي في الأرواح نحو 37 مواطناً، في مقابل خمسة قتلى من البريطانيين .
كما تشير هذه الوثائق، إلى حملة عسكرية بريطانية مفرطة في وحشيتها وقسوتها وتأثيرها، شنت ضد القوة البحرية للقواسم، وحطمتها، وألحقت هذه الحملة دماراً هائلاً بموانئ ومدن الساحل، في عام 1819م .
وقد أبدى أهالي هذه المدن الساحلية، مقاومة شديدة، وبنوا تحصينات لمواجهة الغزاة، وقدموا تضحيات في الأرواح . . وكلها تستحق التسجيل والاستحضار .
كما تذكر هذه الوثائق أيضاً، أن بارجة حربية، رست أمام قصر الحصن، ووجهت مدافعها نحوه، مهددة بقصفه، وذلك بهدف منع الشيخ زايد الكبير في عام 1855م، من رفع العلم الأخضر، بدلاً من العلم الأبيض ذي المربع الأحمر، وتكرر الأمر في عام 1896 لوقف اتصالات حاكم أبوظبي مع الفرنسيين .
وعودة إلى قصة الغازي المتوحش (البوكيرك)، الذي بدأت سفنه بقصف مدينة (قديات) العمانية في أغسطس/آب عام ،1507 وحصارها لعدة أيام، ثم احتلالها وحرقها، وقطع أنوف وأذان الأسرى، ووضعهم على مركب برتغالي، ونقلهم إلى جزيرة هرمز، ليطلع الناس، على نتائج من يقاوم البرتغاليين، وبعد ذلك توجه (البوكيرك) إلى مسقط، التي لم تكن عاصمة لعمان في ذلك الوقت، إلاّ أنها كانت ميناء مهماً لكل السفن المبحرة بين الهند والشرق الأوسط . وجرت مفاوضات مع حاكم مسقط الذي رفض دفع جزية إلى ملك البرتغال، كما رفض تشييد قاعدة بحرية للبرتغاليين، فقام (البوكيرك) بقصف دفاعات مسقط، واقتحام أسوار المدينة، ومطاردة العرب المقاومين للغزاة، والذين دافعوا عن مدينتهم بالسهام والحجارة الثقيلة، لكن القوة المهاجمة نجحت في آخر المطاف، في السيطرة على المدينة، وتم قتل الشيوخ والأطفال والنساء، والقبض على حاكم المدينة، فأمره (البوكيرك) بخلع ملابسه، ثم أمر بقطع أعضائه التناسلية، ثم إعدامه، وبقي (البوكيرك) في مسقط نحو ثمانية أيام، ونهبها نهباً كاملاً، قبل أن يتوجه إلى صحار وخورفكان .
وحينما اقترب (البوكيرك) من خورفكان، لاحظ أن سفناً عديدة هربت من الميناء، لكنه شاهد جمعاً غفيراً من أهالي خورفكان، ينشدون أهازيج الحماسة، ويحملون أسلحتهم، كما شاهد أعداداً كبيرة من الفرسان وراكبي الجمال، تستعد للقتال والدفاع عن المدينة، وقوارب أخرى تستعد للمواجهات .
وعند الفجر، قام الغزاة بقصف مدفعي ثقيل للمدينة، لتحطيم الدفاعات الحجرية والخشبية لأهل خورفكان، ونزل رتل بقيادة (البوكيرك) إلى ساحل المدينة، وتراجع المقاومون إلى الخلف، وصعدوا إلى أسطح منازلهم، يرشقون الغزاة، بالسهام والحجارة، وتقدم آخرون بالسلاح الأبيض، واشتبكوا مباشرة في شوارع المدينة مع البرتغاليين، لكن القوة الغازية، أطبقت على المدينة من كل جانب فهرب كثير من أهل خورفكان، وبخاصة من النساء والأطفال باتجاه الجبال، وهرعت أرتال من الغزاة وراء الهاربين، لكن البرتغاليين فوجئوا بهجوم معاكس، قام به فرسان مسلحون بالقوس والنشاب، أجبر الغزاة على العودة إلى المدينة . فلاحقهم الفرسان، وكبدوهم خسائر فادحة، مما اضطر (البوكيرك) لإنزال مدافع ثقيلة العيار من سفنه إلى الشاطئ، وقام في الوقت نفسه بجدع أنوف وأذان عدد كبير من الأسرى، وأطلق سراحهم .
ويتحدث (البوكيرك) في مذكراته عن خورفكان، ويصف بيوتها الواسعة والجميلة، وتحصيناتها وميناءها، ومزارع البرتقال والنخيل فيها، ويصف أيضاً اسطبلات الخيول ومراكب الصيد .
إن قصة مقاومة خورفكان، قبل نحو خمسة قرون، ينبغي ألا تظل منسية، إنها تستحق أن يلتفت إليها مؤلف الدراما في الإمارات، ممن يمتلك الحس التاريخي، وأدوات السرد والحبكة السينمائية، والخيال أيضاً، لتقديم هذه القصة إلى الأجيال، بدلاً من هذا الكم الكبير من الدراما الفكاهية الضحلة، التي تغمرنا طوال العام .
وحينما يرتفع هذا النصب التذكاري لمقاومة خورفكان، تصاحبه أعمال سينمائية ودرامية تاريخية، تحكي شيئاً من تاريخ الإمارات، ومن صفحات مطوية .
ننحني بتقدير وعرفان للباحث والمؤرخ والأديب والحاكم الشيخ الدكتور سلطان، الذي فتح الطريق، واستحضر التاريخ للتأمل والتدبر، . . وأنعش ذاكرة المكان .
أما (البوكيرك)، صاحب اللحية الحمراء الكثيفة التي تصل إلى محزمه والذي حرق وقتل عشرات الآلاف من العرب والمسلمين، في السواحل الإفريقية والعربية، وكانت لديه خطة للوصول إلى "ينبع" . والإغارة على المدينة المنورة، ومقايضتها بكنيسة القيامة في القدس، فقد انكسر هذا القائد الدموي في عدن، ومات في جوا الهندية عام 1515 .
. .شكراً لمن يزرع حس التاريخ عند الأجيال، والتطلع إلى المستقبل .
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"