«الوثيقة الإنسانية» تُطلق تحدّياً إيجابياً

02:41 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود الريماوي

يقرأ المرء «الوثيقة الإنسانية» التي أطلقها شيخ الأزهر الشريف وقداسة البابا في أبوظبي الزاهرة، من عدة جوانب. الجانب الأول، أنها تعكس رؤى القيادة الروحية لنحو ملياري مؤمن في العالم يتوزعون على القارات الست، ويمثلون بصورة أساسية الديانتين التوحيديتين الأولى والثانية في كوكبنا. وقلّما حظي حدثٌ مماثل أو وثيقة من هذا النوع، بهذا القدر من شمولية واتساع قاعدة التمثيل.
الجانب الثاني، صدرت الوثيقة عن المرجعيتين الدينيتين المرموقتين، من دون أن ينحصر خطابها بالتوجه إلى أتباع الديانتين كما هو دأب رجال الدين في أنحاء مختلفة من العالم، وهو ما يعكسه عنوان الوثيقة الذي يشدد على الطابع الإنساني للخطاب، وللتوجه وللاستهداف، وذلك بإعلاء الشأن الإنساني العام والمشترك بين أتباع الديانتين، وتقديمه على غيره. وبهذا فقد نجحت الوثيقة في مخاطبة الخلق والبشر أجمعين على اختلاف عقائدهم، وهي ميزة كبرى امتازت بها هذه الوثيقة بما يضعها في مصاف الخطابات الإنسانية والعالمية التي تتجاوز الفروق والاختلافات بين بني البشر، وذلك بتشديدها على ما هو جوهري مما يجمع البشر في مطامحهم إلى حياة أرقى، وإلى عالم يستحق العيش فيه.
الجانب الثالث، الذي يسترعي الاهتمام في هذه الوثيقة، أنها انطوت على شجاعة كبيرة في مخاطبة سائر المؤمنين، وحتى الجماعات والأقوام من غير المؤمنين برسالات توحيدية، لتضعهم أمام مسؤولياتهم في التلاقي على كلمة سواء تحفظ للحياة البشرية قدسيتها وللكائن البشري حقه في الكرامة، وما يتصل بذلك من أهمية التفاعل الإيجابي مع هذه الوثيقة المبادرة، بأمل الانضمام إليها أو تبنيها، أو اجتراح خط مواز يتلاقى مع ما تزخر به هذه الوثيقة من رؤية رحبة، ومن استنارة روحية وأخلاقية، ولعل هذه بعض الأهداف السامية الكامنة وراء إطلاق هذه الوثيقة، وذلك باستنهاض قيادات عالمنا الروحية وغيرها من أجل أن تقول كلمتها في وجه ما يعيشه عالمنا من صور التعصب ورفع الحدود والحواجز بين البشر، واستخدام الدين وغيره من العقائد من أجل التبعيد بين البشر، وغرس بذور الشر والكراهية في المجتمعات تجاه غيرها، مع استخدام خطأ للدين ومقاصده ومراميه لتسويغ هذه السلوكيات التي تتنافى بصورة كلية مع ما حققته البشرية من تقدم مادي وتكنولوجي، ومن كشوف علمية باهرة ومن تواصل متاح بين المجموعات البشرية المختلفة.
الجانب الرابع، الذي لا يقل أهمية عما سبق، أن الوثيقة الصادرة عن مرجعيتين دينيتين من أبرز المرجعيات في العالم، لم تتوقف عند حدود كونها حافلة بالمواعظ الروحية والأخلاقية، بل تعدت ذلك بكثير نحو تشخيص مظاهر الظلم وانتفاء العدل وانتشار الفقر والاقتلاع من الديار، واستسهال إثارة الحروب والنزاعات، بما يمثل نقداً صائباً وجريئاً للسياسات الدولية وبعض السياسات الإقليمية هنا وهناك، مما نعاين أخباره وتطوراته على مدار الساعة وفي غير مكان من العالم، حيث إن انقضاء الحرب الباردة وبعد الشقّة عن آخر حرب كونية ثانية، لم يولّدا حتى الآن عالماً يحترم قيم العدل والسلام والكرامة البشرية، بل هناك ما يشيه حرباً عالمية ثالثة تقع بالتجزئة كما ورد في الوثيقة.
ولا شك أن ما ورد بهذا الخصوص يمثل تشخيصاً جريئاً لواقع حال عالمنا، حيث لم يتوقف التسابق على بسط النفوذ والهيمنة، والقفز عن حقوق الإنسان والشعوب، والفتك بالبشر بما في ذلك ملايين الأطفال الذين يموتون جوعاً. مع انتشار مظاهر شتى للإرهاب بتعلات مختلفة وباستخدام الأديان شعاراً للتمويه على ما يرتكب من فظائع بحق البشر والحجر والشجر. وبهذا نجحت الوثيقة في أن تلامس القضايا الحسّية التي يشهدها عصرنا ويعانيها ملايين البشر، ولم تتوقف عند العام والعموميات. وقد أثبت مضمونها أن لرجال الدين كقادة للرأي العام، ما يقولونه وما لا يترددون في قوله، في وجه ما يحفل به عالمنا من تراجع للقيم ومن تدهور أخلاقي تتسم به جوانبٌ من السياسة الدولية وينعكس بالسوء على أنحاء واسعة من المعمورة، وكأن العالم يتقهقر عقوداً إلى الوراء، ويتراجع عن مدنيته وتمدّنه، وعما بلغه الفكر الإنساني من تطور.
وبهذا يمكن النظر إلى هذه الوثيقة الإنسانية البالغة الأهمية، على أنها صيحة ضمير مدوية، وتحذيرية، مما ينزلق إليه عالمنا من مظاهر امتهان كرامة الأفراد والجماعات والشعوب، والتعدي الواسع عليهم، ومن استضعاف للضعفاء كالنساء والأطفال والمسنين والفقراء والمشردين والمجتمعات الصغيرة، فيما يتم في الأثناء استخدام الدين أو غيره للتستر على هذه الانتهاكات، أو صرف الأنظار عنها، وحتى تبريرها. والبداية الرائعة التي أطلقها رجلا الدين الموقّران إمام الأزهر الشريف وقداسة البابا، تنتظر من يستكملها من الزعامات الروحية وغير الروحية في عالمنا، وهذا من أوجب واجبات القيادات التي تؤمن بأهمية حفظ كرامة البشرية وأمن وسلام عالمنا.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"