ثنائية المفاوضات والمستعمرات

04:38 صباحا
قراءة 4 دقائق

لا أعتقد أن التاريخ السياسي للبشرية في كل عصوره، لم يسجل في مجال المفاوضات السياسية بين الأطراف المتنازعة، موقفاً للتفاوض أغرب من موقف المفاوض العربي، والمفاوض الفلسطيني، في الصراع العربي الإسرائيلي .

إن أول مبادئ التفاوض البديهية، في أي صراع سياسي، في أي عصر من العصور، يقضي بأن يستجمع كل طرف من الأطراف، قبل الدخول إلى قاعة التفاوض، أقصى ما يمكن من أوراق القوة المعنوية والمادية، ذلك أن التاريخ، بكل حقبه القديمة والحديثة، علمنا أن النتيجة النهائية لأي تفاوض سياسي، لا تحسمها في النهاية البراعة الخطابية لهذا المفاوض أو ذاك، أو ذكاؤه أو دهاؤه، بل تحسمها المحصلة النهائية لميزان القوى على أرض الصراع بين الطرفين المتنازعين، بعدما يضع كل طرف في كفة الميزان التي تخصه، كافة أوراق القوة التي يملكها، فيكون الحل العملي الذي تنتهي به المفاوضات، هو محصلة نسبة المقارنة بين قوة كل طرف، في كفتي الميزان، بحيث إن التعادل في ميزان القوى سيؤدي حتماً إلى حل توزع فيه المصالح مناصفة بين الطرفين، لتعادل قوتهما في كفتي الميزان . أما إذا رجحت كفة الطرف الأول على كفة الطرف الثاني، فإن الحل العملي سيكون في النهاية أشد ميلاً لصالح الطرف الأول . ولا يمكن لأي طرف من المتفاوضين أن يحلم حتى، بحل يأتي محققاً له من المصالح، بأكثر ما يملك من أوراق القوة الفعلية في كفة الميزان الخاصة به .

الكارثة الكبرى عند العرب المعاصرين، أنهم منذ مؤتمر مدريد، ثم منذ اتفاقية أوسلو بعد ذلك، بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، أي منذ ما يقارب العقدين من الزمن، قد أقحموا أنفسهم، أو أقحموا بالضغط والإكراه، في دوامة من المفاوضات العبثية، بشأن إيجاد حل سياسي للصراع العربي الإسرائيلي، عبر التفاوض .

الكارثة الكبرى، لا تكمن طبعاً في مبدأ التفاوض بحد ذاته، الذي كثيراً ما أدى إلى الحلول المشرفة عبر التاريخ، لكنها تكمن في أن العرب بشكل عام، والفلسطينيين بشكل خاص، لم يدخلوا الحقل المغناطيسي للتفاوض، بعد أن استجمعوا أقصى ما في أيديهم من أوراق القوة المادية والمعنوية، لكن على العكس من ذلك، بعد أن تسابقوا، ابتداء من توقيع مصر على اتفاقية كامب دايفيد، على التفنن في التخلي عن أوراق القوة العربية كلها، ورقة بعد ورقة، وأقوى هذه الأوراق المفقودة حتماً، هي إرادة العرب السياسية لفرض حل للصراع يضمن حقوق العرب والفلسطينيين ضماناً كاملاً . وذلك بعد أن عم عالم الأنظمة العربية، من المحيط إلى الخليج، شعار الرئيس المصري السابق أنور السادات، بأن أوراق اللعبة كلها قد أصبحت بيد الولايات المتحدة .

ومع أن احتمالات الفشل التاريخي الكامل لهذا الاتجاه، كان يمكن قراءتها بوضوح، منذ اللحظة الأولى لمثل هذه المفاوضات غير الطبيعية وغير المنطقية، فها هم العرب والفلسطينيون، يقتربون من الوصول إلى عقدين كاملين من المفاوضات العبثية، من دون أن يستفيدوا في هذه المفاوضات، حتى من ورقة القوة العربية الوحيدة المتبقية، التي أكدتها على أرض الصراع، بعض بؤر المقاومة العربية هنا وهناك، بل إن النظام العربي الرسمي، يكاد يسابق الطرف الثاني في المفاوضات (التحالف الأمريكي الاسرائيلي) في محاصرة بؤر المقاومة هذه، تمهيداً لخنقها، لو استطاعوا إلى ذلك سبيلا .

ليس هذا فقط، بل إن عقدين كاملين من التفاوض العبثي كامل الفشل، لم يكفيا حتى الآن لتنبيه الأنظمة العربية الرسمية (بمن فيها السلطة الفلسطينية)، إلى أن الأسلوب الحالي للتفاوض، المستمر منذ عشرين عاماً أو ما يقارب ذلك، قد تحول إلى دائرة مفرغة، لا يكف الوضع العربي العام من الدوران فيها إلى ما لا نهاية، من غير أي نتيجة، سوى تأمين مزيد من الفرص أمام النزعة الصهيونية الاحتلالية والعنصرية، للتفشي على ما تبقى من أرض فلسطين، وتهويدها شبراً شبراً، حتى وصلت مشاريع التهويد في هذه الأيام إلى أمتار معدودة من المسجد الأقصى في القدس .

تتراكم هذه المخاطر الوجودية أمام العرب وتتفاقم من دون أن ينتبه أي مسؤول عربي إلى أن الحالة السياسية العامة في أرض الصراع، فلسطين، أصبحت تسيّرها ثنائية واضحة، تتكامل فيها المفاوضات مع المستعمرات الاستيطانية للاحتلال الإسرائيلي، حتى إنه أصبح بإمكاننا قياس وتيرة تفاقم عدد المستوطنات الإسرائيلية الاستعمارية، بوتيرة جولات المفاوضات الفارغة، التي تشكل حصيلتها العامة خلال العقدين الأخيرين، تراجعاً يصل بالصراع إلى مشارف التصفية الكاملة وفقاً للرغبات الصهيونية، إذا بقي العرب، ينتقلون بسعادة بلهاء، من دورة مفاوضات، إلى دورة مفاوضات أخرى .

أخطر مؤشرات الصفعة الإسرائيلية الأخيرة للإدارة الأمريكية، بشأن المستوطنات، أن الأنظمة العربية كلها، قد وضعت أيديها على خدودها وهي تنتظر رد فعل الإدارة الأمريكية على الوقاحة الإسرائيلية . أما ماذا قرر العرب أن يفعلوا فيما لو بقي الموقف الأمريكي، كما عودنا منذ إنشاء دولة إسرائيل، مستعداً كالعادة لابتلاع الصفافة الإسرائيلية، حتى لا يشكل أي رد فعل آخر تهديداً لأمن إسرائيل، فهذا سؤال غير مطروح في أي عاصمة عربية، لا الآن، ولا بعد تكرار خيبة الأمل من رد الفعل الأمريكي .

إننا نعيش عصر سيطرة ثنائية المفاوضات المستعمرات، الذي سيبقى ساري المفعول للأسف حتى يعترف الوضع العربي الرسمي، بالفشل النهائي للأسلوب الحالي للتفاوض، ويختار له أسلوباً آخر، يعتمد على استنفار كل أوراق القوة العربية، قبل القبول بدخول قاعات المفاوضات، مرة أخرى .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"