لا أستطيع العيش من دون كتاب

02:20 صباحا
قراءة 6 دقائق
د. يوسف الحسن

}} القراءة بالنسبة لي، وظيفة حياتية أساسية، أقرأ كي أفهم، أو أتوصّل إلى الفهم، وأحسب أن القراءة تسبق الكتابة، لم تُقرأ لي، أو حتى لجيلي قصص ونحن أطفال، مثلما نقرأ الآن لأولادنا وأحفادنا من قصص وروايات، تسليهم وتجلب النوم إلى عيونهم، ولا أذكر أنني قرأت كتباً للأطفال في السنين الأولى من العمر، رغم أنني بدأت القراءة في سن مبكرة، وكانت الكتب، من روايات وأشعار من غير أغلفة صارخة الألوان، ورخيصة الثمن، ومتاحة في مكتبة المدرسة.

}} في المدرسة، كان الجو الأدبي زاخراً، تذوقت من المدرس المصري، الأديب والقاص سليمان فياض، طعم أشعار أحمد عبد المعطي حجازي، وحفظت بعض قصائده الأولى، وأقبلت على قراءة مجلة «الآداب» اللبنانية..وتعرّفت إلى بواكير الإنتاج القصصي لإحسان عبد القدوس، ومحمد عبد الحليم عبد الله، ويوسف السباعي وتوفيق الحكيم، وجورجي زيدان، ونجيب محفوظ، وإلى كتابات المنفلوطي وغيرهم.
وفي فترة لاحقة، تعلقت بكتب مترجمة، لعدد من عمالقة الأدب في الشرق والغرب، من أمثال تولستوي وهيمنغواي ، ودوستويفسكي ، وشكسبير ، وفكتور هوغو، وسارتر..إلخ.
}} وقد وفّر لي، ولجيلي، «سور الأزبكية» بالقاهرة، في ستينات القرن العشرين، نعمة الحصول على كتاب «الجيب»، ومنشورات ومجلات دار «الهلال» و«المعارف» ودار «النهضة»، وفيما بعد «مكتبة مدبولي»، ما يلبّي عطشي للكتاب، من قصة وشعر ومسرحية ونقد وفلسفة.
}} وما زالت في ذاكرتي، لغة وعلامات ورموز روايات نجيب محفوظ، وإحسان عبد القدوس، وموضوعات الحياة القروية والتصوف والحب والوجود والطبيعة، في كتب جبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة، وأحتفظ في مكتبتي حتى اليوم ببعض الإصدارات الأولى لهؤلاء المبدعين العظام.
}} في مرحلة الشباب.. أتذكر الآن، ماذا كانت الكتب تعني بالنسبة إليّ، كنت أشعر بأن آراء الكاتب متطابقة مع أفكاري، وكم كنت - ومازلت - أتمتع بمنظر الكتب المكدّسة على الرفوف، وأشعر بعلاقة روحية معها، وبرمزية أكثر عمقاً من تلك «التذكارات» التي نشتريها في أسفارنا إلى بلاد أجنبية، من تحفة أو لوحة أو تذكار صغير.
}} ويلفت نظري واهتمامي، حينما أشاهد «ديكورات» داخلية - وهي نادرة الآن - تزيّن جدران غرفة في منزل، برفوف للكتب، من أجل إيقاظ الانطباع الثقافي.
}} وما زالت في الذاكرة، الصورة السينمائية المؤلمة، لحرق كتب فيلسوف قرطبة وطبيبها وقاضيها ابن رشد، التي أبدعها المخرج السينمائي يوسف شاهين في فيلم «المصير»، لم تغب عن ناظري هذه اللقطة الفاجعة، ومثلها لقطات أخرى لحرق الكتب، ونحر التماثيل التاريخية، على أيدي وحوش آدمية معاصرة في العراق وسوريا وغيرهما.
وقد أمدّنا التاريخ بحكايات لانهاية لها عن حرق الكتب، بدءاً من لفائف الورق الأولى حتى زمن «داعش» وأمثاله.
ومن يحرق الكتب، يتوهّم بأنه يستطيع إلغاء الفكر والتاريخ، هكذا فعل هتلر في ثلاثينات القرن الماضي، وقام جوزيف غوبلز وزير دعايته، بحرق نحو عشرين ألف كتاب في برلين، أمام عدسات آلات التصوير، ومن بين هذه الكتب مؤلفات همنغواي وبريخت وشتاينبك وزولا وفرويد وآينشتاين وغيرهم.
اليوم..تشكل معارض الكتب، لحظات فرح وألق، لمن يعشق القراءة ، ويسعى لاكتساب المعرفة والتفاعل مع الأفكار والآخر.
أيام معارض الكتب..ليست أياماً عادية لمن يعشق الكتاب، ويوغل في القراءة والدلالات، ويغترف الحكمة من «أي وعاء جاءت».
}} لا تقرؤوا معرض الكتاب، بالمعنى الحرفي للكلمات، بل قوموا بإنشاء معنى عميق ومثير له، وافتحوا مغارات سحره، وابحثوا عن فضاءات إنسانية ومعرفية، لعلكم تكتشفون روح الآخر، وتختزلون المسافة بين التنوع الثقافي والوحدة، وتحلون ثنائية الشرق والغرب، والشمال والجنوب.
}} في فضاء المعرفة الكونية، تسقط أوهام الغلبة، والثنائيات البائسة، بعد أن ثبت أنه لا يحلها الاعتصام بالذات وتحويلها إلى كهف، تزاور الشمس عن أهله، ولا تصل ولا يصلون.
}} المعرفة محكومة في النشأة والتطور بقانون التراكم، ولا تنمو إلا بالحوار والتبادل والتثاقف، ويغيب الحوار مع امتناع حاسة النقد والمساءلة.
}} مع «خير جليس» يتجلى الحوار الذي يحررنا من بلادة السكون، ونقطع مع «الاستهلاكي» والبذخ التفاخري، ومع «التغوّل» الرقمي.
ونؤسّس للقراءة منتديات وصناعة «أمن ناعم وقائي»، وذائقة فنية جمالية ونعمّق في الذات الإنسانية الأسئلة والمفاهيم ورؤى غير نمطية للآخر المغاير.
}} في معارض الكتاب، وبفعالياتها المميّزة والمتعددة يحضر التلاقح الثقافي والتبادلات بين ثقافات متنوعة، وتفتح نوافذ كانت مغلقة، لا مكان اليوم لثقافة منكفئة على ذاتها...«دروب» الحرير الثقافية سالكة، تهاجر الأفكار بأسرع من هجرة البشر، لكن الأفكار تهاجر، لأنها مطلوبة في مدن العقل والروح والناس.
}} كانت حركة الأفكار في الماضي، تهاجر أو (تفرض) في اتجاه واحد، من الشمال إلى الجنوب، من مركز متعالٍ إلى أطراف في أزمنة المدّ الإمبريالي، مانحة كيانها الثقافي أهمية مطلقة، وطابعاً استعلائياً عرقياً موصولاً بمصالح تاريخية محددة.
}} في معارض الكتاب نتعرف إلى وعي الذات، ومستلزمات نموّها وتطوّرها وحياتها، كما نتعرف إلى وعي الآخر المغاير، وإلى شروط العلاقة التبادلية، المتكافئة بين الذات والآخر.
}} في معرضي الكتاب في أبوظبي والشارقة، شُيّدت جسور للحوار بين الثقافات، وقدما شاهداً على ذاكرة الإمارات وتاريخها، وإبداعات أبنائها وبناتها، واستعداد الإمارات وقابليتها للتطور والتفاعل الفاعل والاستجابة الثقافية، والمشاركة في الدورة الثقافية الكونية، والتراكم الحضاري للإنسانية.
}} نعم...الكلمة تخطت كل الحدود، وكُسرت الفجوة بين المراكز والأطراف وتأسّست علاقات تفاعل حواري ومثمر وعملي بين الكاتب والقارئ والناشر والمبدع، من ثقافات مختلفة، وأعراق وأعمار وفضاءات متعددة.
}} المعرض، ليس مجرد سوق لبيع الكتاب إنما هو وعي بحقوق الطبع والنشر للمنتجات المتعلقة بالمعرفة كافة، وتبادل حقوق وتصاريح الملكية الفكرية، وهو أيضاً مثاقفة ، بمعنى فعل إبداع يروم التأسيس أو الانطلاق إلى فضاءات أرحب، وليس مجرد استعارة أو نسخ أو بناء أشباه.
}} في معارض الكتاب تجري أيضاً حركة مثاقفة ، بآلياتها المستندة إلى التواصل والمواءمة والاستيعاب وإعادة البناء، والبحث الدؤوب الممتدّ عن مشروع ثقافي إنساني، غير مرتبط بجغرافيا ولا بعرق منتجيه أو لغاتهم، مشروع حوار في أخلاقيات التضامن الإنساني وقبول الآخر يرفض المركزية الثقافية، غربية كانت أو «إسلاموية» تدّعي الشمولية وتعادي غير المسلمين وتحتقر الآخر المختلف.
}} في معارض الكتاب، تغادر عقدة التعالي المكان، وتحضر ثقافات وفكر وإبداعات أمم شتى، حضرت السويد ذات معرض، بثقافتها التي يتسرب سحر الإنسانية في دواخلها، وبكتّابها من أصحاب الروح الطليقة، كما حضرت اليابان وإسبانيا وأمريكا اللاتينية.
}} وفي هذا العام حضرت آيسلندا، القادمة من الحافة شمال المحيط الأطلسي إلى «أبوظبي» جاءت من نقطة التقاء المحيط مع المحيط الأبعد المتجمد الشمالي، حضرت لنتعرف إلى ثقافتها وتراث شعبها، وآدابها وفنونها وموسيقاها ذات الطابع الديني وقصصها الملحمية وتجاربها الثقافية.
}} حوار الثقافات وتفاعلها البيني، هما الطريق الآمن، لبناء عالم يسوده التعاون والتعاضد ولتوفير فهم أفضل للأنا وللآخر، هو الطريق «الدبلوماسي» الشعبي، أو «السكة الثانية غير الرسمية» للتعارف والتعاون بين الأمم في أزمنة السلم وأزمنة الحرب.
وكل ثقافة في الدنيا لديها «قابلية للحوار»، والرغبة في تنمية قيمها وخصوصياتها الثقافية في آن، ومن غير هذا الطريق الآمن لا نستطيع أن نواجه ضروب الكراهية الجماعية والتعصب. وإشكاليات الصور النمطية لحضارة عند أخرى.
}} في الحوارات الرسمية، بين الدول أو أتباع الأديان والمعتقدات أو الثقافات، شيء كثير من «التفاوض والمصالح والسياسة والميكيافيلية»، لكن في الحوارات غير الرسمية، تحضر بقوة السلطة الأخلاقية والإبداعية للثقافة، وتغريك المعارف والمراجع والصور والتعابير، وتنفتح على حقول مسكوت عنها، وعلى جوهر منطق خطاب الآخر، وتعبر إلى وجدانه وتستقر هناك.
}} تستطيع السياسات الدبلوماسية الرسمية، خلق التحالفات بين الدول والأمم، كما تستطيع السياسات الاقتصادية والتبادلات التجارية، أن تخلق الشركاء، لكن التفاعلات والحوارات الثقافية هي القادرة على خلق الأصدقاء.
وفي الخاتمة:
أتقدم إلى معرضي الكتاب في الشارقة ودبي، بعرض «فكرة للبيع» مجاناً، على طريقة الصحفي المصري مصطفى أمين، ويمكن بلورتها لاحقاً، وتتمثل في «تأسيس برلمان للثقافات» تحت مظلة هذين المعرضين، تجتمع جمعيته العمومية في موسم كل دورة من دورات المعرضين، وله لجانه التوجيهية والتنفيذية، وله آلياته للعضوية، وتمثل في هذا البرلمان نماذج لشتى الثقافات في العالم، تتبادل التجارب والمعارف والإشكاليات، وتتحاور في أخلاقيات تضامن وتعاون وتعارف الثقافات ..إلخ.
نلتقي في المعرض..حيث الشرق غرب والغرب شرق، وحيث الحوار الثقافي الفاعل والمتفاعل
...أنا والكتاب عاشقان، يقربهما الهوى. ويفصلهما الهواء، لا أستطيع العيش من دون كتاب.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"