ذكريات منتدى دافوس

02:57 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. مصطفى الفقي

لن أنسى برودة الجو في مثل هذه الأيام من عام 1995 وكنت مديراً لمعهد الدراسات الدبلوماسية، ودعاني منتدى دافوس ومؤسسة (كلاوس شواب) شخصياً لكي أشترك مع جواد ظريف - نائب وزير الخارجية الإيراني حينذاك والذي أصبح وزيراً للخارجية فيما بعد، في ندوة مشتركة حول موضوع الدين والسياسة في الشرق الأوسط وكان ذلك في القاعة الرئيسية للمنتدى باعتبارها الندوة الأولى في تلك الدورة لذلك المنتدى العالمي وفي حضور حشد كبير من الساسة وكبار المسؤولين والمفكرين والأكاديميين والإعلاميين. وقد أدار الجلسة بيني وبين الزميل الإيراني ريمون بار رئيس وزراء فرنسا الأسبق، وكانت الندوة مثيرة للغاية وحافلة بوجهات النظر المختلفة، وقد تدخلت القاعة وفرضت موضوع (مسيحيي الشرق) في إطار تلك الندوة. وكان علينا أن نتحدث - ذلك الدبلوماسي الفارسي الشيعي وأنا الدبلوماسي المصري السني - ونحلل ظاهرة الإسلام السياسي وما لحق بها من تطورات وما نتج عنها من أحداث، ولعلي أضع أمام القارئ أهم ما أثير في تلك الندوة المهمة في ذلك الوقت المبكر من تنامي تلك الظاهرة. فلقد كنا قبل 11 سبتمبر/أيلول 2001 بأكثر من ست سنوات كما كان اللقاء سابقاً على تفجير السفارتين الأمريكيتين في شرق إفريقيا ومع ذلك كانت تلوح في الأفق بوادر غيوم قادمة وسحب كثيفة توحي بأن أمطار الإرهاب سوف تقذف بزخاتها العشوائية على البلاد والعباد، وكانت أهم النقاط التي تناولناها في ندوة دافوس 1995 هي:
- أولاً: بدأت محاضرتي بإيضاح العلاقة بين الإسلام وأهل الكتاب وخصوصية الصلات الوثيقة بين أتباع الديانات الإبراهيمية الثلاث وذكرت في مستهل حديثي أن الله قد خاطب في قرآنه الكريم الناس جميعاً دون تخصيص للمسلمين وحدهم وذلك في عدة مواقع من الذكر الحكيم، ثم تطرقت إلى روح التسامح المتأصلة في التكوين المصري تجاه النصارى واليهود على مر التاريخ، وذكرت رموزاً لشخصيات من هاتين الديانتين تبوأت مواقع مهمة في تاريخ الدولة المصرية قديماً وحديثاً بحيث كان إسهامهم في الحضارة العربية الإسلامية مشهوداً ومرموقاً.
- ثانياً: تحدث جواد ظريف عن الثورة الإيرانية وتأثيراتها على الشعوب الفارسية وأصدائها في المنطقة، مؤكداً سعي طهران لإقامة علاقات حسن جوار إقليمياً مع تواصل إيجابي مع القوى الكبرى في العالم مستنكراً حملات التشويه - من وجهة نظره - للثورة الإسلامية في إيران.
- ثالثاً: ضربت من جانبي أمثلة للتسامح الذي دعا إليه الإسلام ورفض التطرف والغلو والتشدد والدعوة إلى الإخاء والمحبة وذكرت الآية الكريمة (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) ودعوت إلى التضامن الإسلامي المسيحي في مواجهة الغزو الفكري الذي يدس الخلاف ويخلق الفتن ويمهد لتوسيع الهوة بين الدول والشعوب.
- رابعاً: تطرق ظريف إلى علاقات بلاده بالولايات المتحدة الأمريكية وأن إيران ترفض التدخل في الشأن الداخلي أو محاولة دق إسفين بينها وبين جيرانها في الخليج ودول غرب آسيا المجاورة، مؤكدًا أن الإسلام يعطي حق الثورة على الظلم وتغيير الأوضاع لما فيه صالح الأمة عند اللزوم، وأشار ظريف رداً على سؤال حول مبدأ تصدير الثورة إلى أن ذلك ليس صحيحاً ولكن دول المنطقة بدأت ترفض الظلم وتقاوم التجبر.
- خامساً: تدخل ريمون بار بهدوئه وحكمته لكي يقول إن التعايش المشترك بين أوروبا في حوض المتوسط ودول الشرق الأوسط خصوصاً في الشمال الإفريقي كانت دائماً قائمة على التفاعل والتعايش برغم كل المشكلات والظواهر التي طرأت على تلك العلاقة في فترات معينة مثلما حدث بين فرنسا والجزائر، وهي علاقة لم يكن لها بعد ديني ولا حتى ثقافي ولكنها تعبير عن ظهور الروح الوطنية في مرحلة تصفية الاستعمار.
- سادساً: أشرت إلى أهمية مثل هذه اللقاءات في فتح نوافذ ضوء للتفكير البناء والابتعاد عن العزلة التي تصنع الخصومة وتطيح بالثقة وتؤدي إلى المخاوف المتبادلة وأشرت يومها إلى أن الفوارق بين مذهب أهل السنة والجماعة في جانب والمذهب الشيعي في جانب آخر لا تمثل مشكلة حقيقية ولكنها ظاهرة طارئة قد يحاول البعض استغلالها خصوصاً من القوى الأجنبية في المنطقة، وضربت مثلًا يومها بالمصاهرة بين أكبر عرش سني في الشرق الأوسط وولي عهد إيران الذي أصبح الإمبراطور محمد رضا بهلوي والذي اقترن بابنة الملك فؤاد الأول وشقيقة عاهل مصر فاروق ولم يثر الأزهر يومها ولا أي مرجع شيعي ما يختلف مع تلك المصاهرة الملكية.
أتذكر تلك الندوة المهمة التي استقبلتها أجهزة الإعلام الدولية والإقليمية بحفاوة بالغة لأن الحوار كان يمتص روح الكراهية ويطيح بسوء الفهم ويعتبر مظهراً حضارياً يجب أن نسعى إليه وأن نتواصل معه وأن نشارك فيه.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"