خطايا الماضي إذ تعمل في الحاضر

04:14 صباحا
قراءة 4 دقائق

منذ بضع سنوات أظهرت مراجعة شاملة ل 25 ألف دراسة، مختبرية وفي الواقع الحياتي، شملت ثمانية ملايين شخص . قام بها علماء النفس والاجتماع، أظهرت أن سلطة الظروف الاجتماعية على الإنسان الفرد وعلى الجماعات هي كبيرة وبالغة الأهمية . لكن الظروف تلك لا تأتي من فراغ وإنما هي حصيلة لأنواع من الأنظمة، السياسية والاجتماعية والاقتصادية، التي تخلق تلك الظروف وتتحكم بها وتستغلها لمصلحتها .

بالنسبة للفرد العربي وللجماعات العربية فإن تلك الأنظمة تمثلت في ثلاث صور: نظام سياسي استبدادي تسلطي فاسد ظالم، علاقات قبلية أو عشائرية أو عائلية تعلو فوق الوطن والعام المشترك، قراءات فقهية متباينة سمحت لاستغلال الدين في السياسة، وأفرزت ما عرف بفقهاء السلاطين وبالطائفية .

النظام السياسي ذاك جذّر الخوف والخنوع والاستزلام كثقافة مجتمعية رائجة، والقبلية وأخواتها أوجدت علاقات مجتمعية مصلحية منغلقة على نفسها وقامعة لاستقلالية الفرد والتزاماته العامة، أما استغلال القراءات الخاطئة من قبل فقهاء السلاطين فقد قلب الدين الإسلامي من كونه ثورة في سبيل الحق والعدل والحرية والسمو الإنساني إلى مناقشات فرعية هامشية وإلى أداة لتبرير كل أنواع الأخطاء والخطايا .

إن ما يهمنا في هذا المجال هو التشابه في الجوهر بين المسيرة التاريخية العربية التي خضعت لتلك الأنظمة المستبدة، أو المصلحية المنغلقة أو المستغلة للكلمات والرموز الدينية من أجل مصلحة السياسة وبين الكثير من التجارب المخبرية التي قام بها علماء النفس والاجتماع عبر قرن كامل أو التجارب الحياتية المشينة التي جرت في سجون أبوغريب وغوانتانامو، أو وقعت في فيتنام على أيدي الأمريكيين وفي فلسطين المحتلة على أيدي الصهاينة، وفي العراق على أيدي مجانين الطائفية وفي العديد من الدول الإفريقية وغيرها كثير .

ولأن هناك تشابهاً في الجوهر، فإن هناك تشابهاً في النتائج، ومن أهمها الآتي:

* أولاً - ترسخ ما يعرف بظاهرة الاستقالة السلبية من عيش الحياة النشطة الإيجابية . إن الفرد أو الجماعة يودون أن يقوم غيرهم بتحمل مسؤوليات الحياة . إنهم في تفتيش دائم عن القائد الأب أو الحاكم رب العائلة . إن الحياة القبلية قد عودتهم على أن الأمور يجب أن تترك لرئيس القبيلة، فهو الأعلم بتدبير الأمور .

لقد كانت ثورات وحراكات الربيع العربي محاولة جادة للخروج من حالة الاستقالة ومن حالة الخوف من مسؤوليات الحرية . لكن التخلص من تلك العادات والعاهات لن يكون سهلاً . وها نحن اليوم، بعد مرور سنتين على الربيع العربي، نرى عند البعض في مصر وتونس وليبيا واليمن حنيناً لعودة الرئيس رب العائلة والقبيلة بعد أن أذهلتهم وأنهكتهم مسؤوليات الديمقراطية ومتطلبات ممارستها .

* ثانياً - من أخطر النتائج هو ترسخ ظاهرة ما يعرف بتجريد الآخر من إنسانيته (DEHUMANIZATION) . وعندما تمارس تلك العادة فإنها تؤدي إلى كوارث . إن جزءاً أساسياً من التركيبة النفسية عند شباب مجاهدي القاعدة هو التعامل مع أعدائهم أو حتى مخالفيهم بأنهم ليسوا بشراً يستحقون الحياة ولذا يجب أن يتم اجتثاثهم من الوجود .

لكن هذه الممارسة لا تقتصر على هؤلاء المتطرفين فقط . إننا نراها أيضاً عند بعض المتطرفين من الإعلاميين والسياسيين أيضاً . إننا عندما نستمع إلى خطابهم، بلهجته الغاضبة القبيحة، تجاه قوى الإسلام السياسي في مصر أو تونس على سبيل المثال نرى محاولة تجريدهم حتى من إنسانيتهم واعتبارهم جراثيم في الحياة السياسية يجب استئصالها أو تلقيح جسد المجتمع ضدها . يخرج التعامل هنا من مستويات الاختلاف إلى مستويات التجريد من الإنسانية ومن ثم الاستئصال . وقد كتب علماء النفس الاجتماعي المئات من الكتب عن هذه الظاهرة الخطرة وكيف أن الأنظمة المريضة تؤدي إلى الوصول إليها عند الأفراد والجماعات .

* ثالثاً - أيضاً من أخطر النتائج وصول الفرد أو الجماعة إلى حالة خفوت وضعف ذاتية الفرد، وبالتالي ضعف الضمير عنده، ومن ثم ممارسة عادة التفرج على الأحداث وعلى ما يصيب الغير بحيادية تامة وبلا مبالاة أخلاقية . انظر إلى محدودية الانتماء إلى النقابات والأحزاب ومؤسسات المجتمع الأهلية المدنية . انظر إلى المذابح التي تجري يومياً في أرض العرب من قبل بعض الأنظمة أو الإرهابيين أو عتاة الطائفية من دون أن تخرج مظاهرة واحدة للتنديد بذلك . انظر إلى الاستباحة الصهيونية والاستعمارية اليومية لكل حرمة ومبدأ من دون أن يتحرك ضدها إلا القليل . انظر إلى دموع الثكالى والأطفال والعجزة من دون أن تحرك الغضب ولا حتى الاحتجاج .

إن موت ذاتية الفرد الإنسانية تفسر ذلك .

هذا موضوع لا تعطيه حقه مقالة، إذ يحتاج إلى كتب . والنتائج الثلاث هي أمثلة . إنها تفسر جزءاً من مشهد الربيع العربي الذي لا يكفيه أن يدرس من خلال السياسة فقط . إنه مشهد مركب ويحتاج إلى صبر وإيمان بالحق وفي نهايته يشع نوراً .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"