الدبلوماسية الأمريكية الجديدة في خدمة الاقتصاد

03:49 صباحا
قراءة 3 دقائق

كلنا نذكر كيف أن المرشح المغمور بيل كلينتون هزم الرئيس الأمريكي بوش الأب، الخارج من انتصارات عالمية مدوية، وذلك في معركة انتخابية رئاسية، العام ،1991 حملت شعار إنه الاقتصاد أيها الغبي . لقد تبين وقتها أن الناخب الأمريكي لا تهمه سيطرة بلاده على العالم وتربعها على عرش النظام الدولي بقدر ما يهمه وضعه الاقتصادي لجهة القدرة الشرائية، وانخفاض البطالة وغيرها . ثم جرت استطلاعات للرأي في دول عظمى عدة جاءت نتيجتها أن السياسات الداخلية، الاجتماعية والاقتصادية، تأتي في طليعة اهتمامات الناخبين في حين تأتي السياسات الخارجية في منزلة أقل أهمية .

فور وصول كلينتون إلى البيت الأبيض في العام 1992 طلب من الكونغرس إعطاءه الإذن بتوقيع اتفاقيات ومعاهدات اقتصادية وتجارية بموجب إجراءات استثنائية سريعة . وهكذا كانت معاهدة نافتا (للتبادل الحر في أمريكا - الشمالية بين الولايات المتحدة وكندا والمكسيك)، التي دخلت حيز التنفيذ في اليوم الأول من العام ،1994 المعاهدة الكبرى الأولى في عهد الرئيس الديمقراطي الذي أقام استراتيجية الأمن القومي على شعار توسيع الديمقراطية والتبادل - الحر، وحقق إنجازات واسعة في هذا الصدد .

في عهد بوش الابن تراجعت التجارة إلى المرتبة الثانية لمصلحة الحرب العالمية على الإرهاب ومعها راح يتراجع الفائض الخزيني إلى عجز في كل الميادين الاقتصاية، وصولاً إلى الأزمة الكبرى في العام 2008 التي لاتزال آثارها إلى اليوم . وكان من الطبيعي أن يكون في رأس أولويات الرئيس باراك أوباما التصدي للمشكلات الاقتصادية التي خلفها المحافظون الجدد وراءهم: عجز يزيد على1300 مليار دولار ونمو اقتصادي هزيل وديون تفوق 61 ألف مليار دولار .

في خطابه الأول بعد تعيينه وزيراً للخارجية قال جون كيري أمام الحاضرين في جامعة فيرجينيا: لا يمكن لنا أن نكون في موقع قوة في العالم إذا لم نكن كذلك في بلدنا، وهذا يعني بالنسبة لبلد موّل حروبه بالديون أن يعمد إلى تحسين ماليته العامة وسداد ديونه، على الأقل لكيلا يصبح خاضعاً لمموليه، وفي طليعتهم الصين كما قالت هيلاري كلينتون ذات مرة . وهذا يقع على عاتق السياسيين والدبلوماسيين، بحسب كيري: التحدي الأكبر للسياسة الخارجية اليوم في يد الدبلوماسيين وأعضاء الكونغرس ( . . .) وأنا كدبلوماسي أعمل على مساعدة الدول الأخرى على تأمين الاستقرار فإن مصداقيتي لا تكون في أوجها إلا إذا تمكن بلدي من تصحيح وضعه المالي مضيفاً: من الصعب أن نطلب من بعض القادة في العالم أن يحلوا مشكلاتهم الاقتصادية إذا لم نفعل ذلك نحن .

ويسعى الرئيس أوباما إلى بعث الحياة في الدورة الاقتصادية قبل التصدي لمشكلة العجز الخزيني وذلك بهدف تحرير النمو الاقتصادي الكفيل لاحقاً بترميم العجز . ويمر ذلك بمضاعفة حجم الصادرات في غضون السنوات الخمس المقبلة بغية خلق فرص عمل جديدة . وفي هذا الصدد فإن خطاب وزير الخارجية المذكور فاجأ المراقبين عندما اعتبر أن معالجة الاقتصاد هي من واجبات السياسة الخارجية: يحب البعض لو أن العولمة تختفي، ولكن لا يستطيع أي رجل سياسي مهما كان قوياً أن يعيد المارد إلى العلبة . مهمتنا هي السيطرة على النزعات السلبية للعولمة . وقد أعطى أمثلة عديدة عن الأدوار الجديدة التي يمكن للممثلين الدبلوماسيين الأمريكيين في العالم القيام بها لدعم اقتصاد بلادهم . ففي أندونيسيا مثلاً، بفضل السفير الأمريكي، وقعت شركة بوينغ العقد التجاري الأهم منذ سنوات طويلة، كما أن شركة القطارات الأندونيسية اشترت قاطرات تصنعها جنرال الكتريك . كما أن شركة طاقة كبرى جنوب إفريقية قررت بناء معمل ضخم لها في لويزيانا بتكاليف تبلغ مليارات عدة من الدولار . وبفضل نشاط الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية ارتفعت الصادرات الأمريكية لفيتنام سبعمئة في المئة في عشر سنوات .

وباراك أوباما الذي أسف لفشل مفاوضات جولة الدوحة التجارية اتجه صوب آسيا، من جهة، وأوروبا، من جهة ثانية، ليدعو إلى نوع من تحالف طوعي في المجال التجاري . هذه الشراكة العابرة للباسيفيك الذي يود أوباما إنجازها في العام الجاري تضم الولايات المتحدة وكندا والمكسيك والبيرو وتشيلي ونيوزيلاندا وأستراليا وبروني وسنغافورة وماليزيا وفيتنام (مع ترك الباب مفتوحاً أمام اليابان وكوريا) . ويلاحظ المراقبون أن هذه الشراكة تستثني الصين ما يعني أن لها أهداف جيوستراتيجية على وجه التأكيد . أما معاهدة التبادل الحر مع أوروبا (الشراكة العابرة للأطلسي) فقد أعلنها الرئيس أوباما في خطابه عن حال الأمة في يناير/ كانون الثاني الماضي، وأهميتها التجارية تفوق أهميتها السياسية والجيوستراتيجية .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"