حيث لا ديمقراطية يترعرع الفساد

05:09 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. علي محمد فخرو

الطرح العالي والمتكرر، المحق، لشعار محاسبة المفسدين ومواجهة ظاهرة مرض الفساد، في ساحات وشوارع مدن الوطن العربي، يدل على أن تلك الظاهرة قد قادت المجتمعات والمواطنين إلى أقسى درجات الاستغلال المادي والمعنوي البشع، وأنها أصبحت أهم سبب للتراجعات التنموية العربية، وبالتالي للفقر والتخلف.
وككل ظاهرة مجتمعية تكمن من ورائها شتى العوامل والأسباب التي سمحت لها أن توجد وتتعاظم وتستمر، جيلاً بعد جيل. ولعل أهم وأقوى تلك العوامل غياب المؤسسات والممارسات الديمقراطية في الحياة السياسية والاقتصادية العربية.
في غياب الديمقراطية الحقيقية، غير المظهرية، تغيب مبادئ وممارسات الشفافية. تضعف نظم وأدوات المساءلة والعقاب. يسهل التلاعب بالدساتير والقوانين، حتى ولو كانت مثالية في منطوقاتها، وتتداخل بصور غامضة انتهازية صلاحيات وحدود السلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية، ويُّمنع الإعلام المجتمعي من الاقتراب من ساحة الفساد والمستفيدين منه.
هذا الارتباط الوثيق بين ظاهرة الفساد ومدى توفّر القيم والأنظمة والمؤسسات الديمقراطية يوجد جواً من الشكوك حول الوعود التي تطلقها الأنظمة العربية غير الديمقراطية بشأن استعدادها لمحاربة الفساد والمفسدين.
فإذا كان الفساد قد ترعرع في ظل تلك الأنظمة فإن محاربته لن تكون على يد أصحابها الملطّخة بكل قذارات الفساد. من هنا يستطيع الإنسان أن يتفهم إصرار شباب الحراكات الجماهيرية على تبديل الأسس التي قامت عليها أنظمة الحكم، وبالتالي تبديل رجالاتها، كشرط وجودي لانسحابهم من الساحات والشوارع. إنه إصرار يدل على وعي سياسي عميق وعلى ممارسة نضالية كفؤة مجدية. إنهم يفهمون بعمق المثل القائل بأن فاقد الشيء لا يمكن أن يعطيه.
لكن الأمر يجب أن لا ينتهي عند ذلك الرّفض العام، إذ إن هناك تفاصيل يحتاج الشباب إلى أن يعوها:
فهناك الارتباط الوثيق بين تنامي الفساد وممارسة مبادئ النيوليبرالية الرأسمالية العولمية التي تعلي من مبادئ التنافس المجنون في الأسواق الحرّة غير المنضبطة وترفض بشدة تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية. تلك الأجواء الاقتصادية لا يمكن إلا أن تؤدي إلى ممارسة الفساد، كأحد أسلحة التنافس. هذا النظام الفاسد هو الآخر يجب دحره.
وهناك الأهمية القصوى للدور الذي يجب أن تلعبه العديد من قوى المجتمع المدني في محاربة الفساد ومنع نموه. فمكافحة الفساد هي عملية متكاملة ومتعاضدة بين سلطة الدولة وسلطة المجتمع. فالأحزاب والنقابات ومختلف الجمعيات تستطيع أن تكوّن جماعات ضغط في مراقبة ومحاربة الفساد. وجمعيات حماية المستهلكين يمكن أن تلعب أدواراً أساسية في عمليات فضح التلاعب والمتلاعبين. والإعلام المستقل النظيف يجب أن يلعب دوراً قيادياً في تثقيف المواطنين بشأن الضرائب وصرفها، وبشأن البيروقراطية الإدارية التي بتعقيداتها تفسح المجال للرشوة والاختلاس دون أن تلاحظ بسهولة، وبشأن مظاهر الترف المجنون في حياة الفاسدين، وبشأن إسماع أصوات الناس العاديين وشكاواهم من خلال رسائل القراء أو اللقاءات معهم.
ولما كان مسؤولو البلديات أقرب إلى نبض الحياة اليومية للمواطنين من غيرهم من المسؤولين الآخرين فإن باستطاعتهم لعب أدوار هامة في مجال مكافحة الفساد في الساحة المحلية.
مشكلة الفساد هي، إذن، ليست مشكلة سلطة دولة فقط، بل إنها، أيضاً، مشكلة مجتمع، والذين يطالبون بأن تقوم سلطات الدولة بواجباتها، عليهم أن ينخرطوا بقوة في تنظيم قوى المجتمع المدني لتقوم بواجباتها هي أيضاً.
ولما كان داء الفساد قد استفحل وأنهك الجسم العربي فإن مواجهته تحتاج إلى مجموعة من الخطوات الضرورية.
فهناك حاجة إلى تحاليل وتشخيصات دورية مستمرة لأشكال الفساد وتجلياته. وهناك حاجة إلى فضح دائم لعوامل الفساد التي تكمن من ورائه وتقود إليه. وهناك حاجة لتقييمات دورية مستمرة لمدى نجاح وسائل مكافحة الفساد وإجراء تعديلات في تركيباتها لجعلها وسائل ناجعة.
وبالطبع فإننا لا نحتاج لأن نبدأ من الصفر، إذ هناك أدبيات هائلة في هذا الحقل، من مثل معايير اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، ومن مثل تجارب عشرات المجتمعات الأخرى الناجحة.
تحية للحراكات الجماهيرية العربية، وعلى الأخص شبابها وشاباتها، في شتى مدن العرب التي رسَّخت بقوة وإصرار شعار مكافحة الفساد. رسّخته كشعار أساسي في الحياة السياسية والاقتصادية العربية، ليضاف إلى شعارات الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية.

dramfakharo@gmail. com

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"