نظام العلاقات الدولية

02:06 صباحا
قراءة 3 دقائق
عبد الإله بلقزيز

عقب سقوط النظام النازي في ألمانيا، وبعد رحيل ستالين وبداية تطبيق سياسة نزع الطابع الستاليني عن النظام السوڤييتي، ازدهر مفهوم الكلانية والنظام الكلاني لتعيين النظاميْن النازي والستاليني، بما هما نظامان متفردان في الطبيعة ولا يشبهان نظائرهما من الأنظمة الطغيانية والاستبدادية والديكتاتورية والفاشية والأوتوقراطية ...إلخ، المعروفة لدى فلاسفة السياسة وعلماء الاجتماع والسياسة. وما من شك في أن كتاب الفيلسوفة وعالمة السياسة الألمانية حنة أرندت حول أصول الكلانية، وخاصةً الجزء الأول منه حول النظام الكلاني، أتى يمثل التدشين الدراسي الأول للدراسات السياسية المتوسلة مفهوم الكلانية في تحليل أنظمة الحكم الشبيهة، قبل أن يصبح مألوفاً - بدءاً من سنوات الستينات - الاتجاه نحو استدخال المفهوم هذا في منظومة مفاهيم التحليل المعتمَدة في العلوم السياسية كما في علم الاجتماع السياسي.
يختلف النظام الموصوف بالكلاني عن الأنظمة الشبيهة المومأ إليها؛ إذا كان الجامع بين الاستبداد والديكتاتورية والفاشية والطغيان والتسلطية أنها جميعها تصادِر السياسة وتستبد بها بصرف النظر عما إذا كان ذلك يجري في صورة استبداد فرد أو عائلة أو هيئة اجتماعية أو حزب أو نخبة عسكرية - ؛ وإذا كان يجمعها إقامة السياسة على القمع وكبت الحريات ومَنْع التمثيل والمشاركة السياسية للمواطنين في الشأن العام، فإن النظام الكلاني يختلف عنها في كونه لا يكتفي بمصادرة السياسة والسلطة، وممارسة القمع ونشر الرعب، فحسب، بل يزيد على ذلك بالتدخل في هندسة المجال الاجتماعي على القوالب والنماذج التي يرتئيها، والتدخل في ما هو خاص (في الخصوصيات)، بما في ذلك في المأكل والمشرب والملبس والأذواق. والهدف؟ تنميط المجتمع على الشاكلة التي تعتقد السلطة الكلانية أنها تعبير عن الشخصية العامة. وإلى ذلك، يسقِط النظام الكلاني كل الوسائط بين «الزعيم» والشعب فيوحي بالتماهي معه، ويصبح الشعب، حينها، مصدر شرعيته على الرغم من اعتماد سلطته على الأمن، في المقام الأول، وخاصةً أجهزة البوليس السري.
المنطق الحاكم للنظام الكلاني والمبدأ المؤسِس له هو القوة؛ وبها لا يكتفي باحتكار السلطة من طريق العنف المادي فحسب، بل يحتكر المجتمع، أيضاً، من طريق العنف المادي والعنف الرمزي (الإيديولوجي) معاً. وإذا كان عنف الاستبداد والطغيان والديكتاتورية والتسلطية عادةً ما يولِد نقيضه: معارضة المجتمع أو قسم من المجتمع، فإن عنف النظام الكلاني ما يلبث أن ينتج استبطان المجتمع له على نحوٍ تدرك فيها قوة النظام بوصفها قوة الأمة والمجتمع على السواء. لذلك يتعسر كثيراً إسقاط النظام الكلاني من الداخل بثورةٍ أو انقلاب.
النظام الدولي، اليوم، أشبه ما يكون - في صيرورته ومآلاته- بالنظام الكلاني. صحيح أنه قام على أنقاض نظام كلاني، هو النظام النازي؛ لكنه قام بتوافق صانعيْن أحدهما كلاني أيضا (النظام الستاليني). ولكن الأهم من ذلك أنه تدرَج في تطوره، كنظام، من نظام متوازن (بين قطبيْ الحرب الباردة)، إلى نظام تسلط قطبٍ واحد (بعد انتهاء الحرب الباردة وانفراط الاتحاد السوڤييتي)، إلى نظامٍ كلاني يتدخل لفرض معاييره على شعوب الأرض كافة، وحمْل دولها على التسليم بقيادته - لا لقوانينه - بالحق في إدارة شؤون العالم والاصطفاف وراءَها بما هي وحدها ضمانة الأمن والسلام.
مَن يراقب سياسات الدولة القائدة للنظام الدولي (الولايات المتحدة الأمريكية) وطريقة تصرفها في الحقل الدولي، يلْحظ أنها لم تعد تكتفي باحتكار القرار في أجهزة النظام الدولي (مجلس الأمن) ومؤسساته ومنظماته (البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، منظمة التجارة العالمية...) وتسخيرها لخدمة السياسات التي تبتغي، بل باتت تتدخل في كل صغيرة وكبيرة في خصوصيات الدول والمجتمعات، لتفرض عليها المعايير التي عليها التزامها؛ كيف تشكل حكوماتها وممن تتألف؛ كيف تجري انتخابات ومَن يراقبها؛ كيف تسمح لمواطنيها بالاحتجاج على سياساتها ومتى لا تسمح بذلك؛ كيف تنجز «الإصلاحات» الاقتصادية والمالية؛ كيف تشذب برامج التعليم فيها من التعاليم الدينية التي تتعارض مع قيم الدول الكبرى؛ كيف تشارك أو لا تشارك في هذا الإطار التعاوني والإقليمي أو في ذاك المؤتمر؛ من أين تشتري السلاح ومن لا يجوز لها أن تشتريه؛ مع مَن تتبادل السلع والمنتوجات فتصدِّر أو تستورد ومع مَن يمنَع عليها كذلك... إلخ ! إنها تفرض قانونها هي لا القانون الدولي؛ إذْ فيما يسلم الأخير بسيادة الدول وحقها الكامل في استقلالية قرارها الوطني، ترفض الدولة القائدة الاعتراف لها بحقوق السيادة وتطلب منها الامتثال لتوصياتها ومعاييرها! هل ثمة، إذن، من كلانيةٍ في النظام الدولي أكثر من هذا التدخل اليومي في خصوصيات الشعوب والدول التي يعترف لها القانون الدولي بها بوصفها من صميم سياداتها؟

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"