القضية الفلسطينية بلا مرجع

05:52 صباحا
قراءة 3 دقائق

تبدو القضية الفلسطينية في هذه الأيام بأنها تمر في إحدى أشد مراحلها (منذ ستة عقود) تفككاً وخطورة، ويتبدى ذلك أكثر ما يتبدى وضوحاً إذا ما قارنا بين وضع القضية في ظروفها الفلسطينية والعربية والدولية الراهنة، وبين وضع القضية نفسها في مراحلها الأولى عندما انفجرت في أواخر عقد الاربعينات.

كانت الحقائق الأساسية للقضية، في مرحلتها الأولى تلك، لا تزال ماثلة للأعين وللذاكرة، حتى ليبدو مشروع كمشروع توطين اللاجئين الفلسطينيين في النصف الأول من عقد الخمسينات، متناقضاً كلياً مع المصالح المباشرة لعرب فلسطين (الضحايا المباشرين للقضية)، إلى درجة سرعان ما دفعت الأوساط الدولية نفسها صاحبة المشروع، إلى سحبه بسرعة من التداول السياسي.

بل إن آثار التفاعل الإيجابي بين الظروف الإقليمية المحيطة بالقضية، وظروف التحولات الدولية ذات العلاقة، قد تبلورت ذات يوم إلى حد نجاح القوى العربية والفلسطينية، بالتحالف والتآزر مع القوى الدولية المختلفة، في انتزاع قرار حاسم من الجمعية العمومية للأمم المتحدة باعتبار الحركة الصهيونية (المسؤولة عن إقامة الكيان الصهيوني وإدارة شؤونه)

ظاهرة عنصرية، تماماً كنظام الحكم السابق في إفريقيا الجنوبية.

ولنا أن نتخيل، ولو للحظات عابرة الآن، أنه لو أحسنت القوى المرجعية للقضية الفلسطينية، إدارة الأمور على طريق التفاعل الواضح الخلاق بين الحقائق التاريخية الأساسية للقضية الفلسطينية، وبين مسيرة التحولات والتطورات في السياسة الدولية، لجاز لنا أن نتوقع أن تصل هذه المساواة الدولية بين الصهيونية والعنصرية، إلى المساواة بين مصير الكيان الصهيوني ومصير نظام التمييز العنصري في جنوب إفريقيا.

لكن خللاً هائلاً بدأ يضرب مرجعية القضية الفلسطينية، أي القوة الاساسية التي تقف وراء القضية وتحافظ لها على وزنها في المحافل الدولية، مواكبة للتحولات الدولية التي لا بد من أن تنتزع منها في النهاية حلاً تاريخياً للقضية، على طريقة حل مشكلة التمييز العنصري في جنوب إفريقيا، وقد تجلى هذا الخلل في الموقعين الاساسيين لهذه المرجعية:

* الموقع العربي، الذي بدأت تتحول فيه القوى العربية، على اختلاف أنظمتها، من الالتزام المصيري الكامل بالقضية الفلسطينية كبند أول في القضايا الوطنية الداخلية لكل دولة من هذه الدول، إلى التنصل المباشر من القضية، على طريق اتفاقيات سلام مع إسرائيل لا تتلازم مع فرض الحل التاريخي للقضية الأساسية، أو التنصل غير المباشر، على طريق الشعار الذي أطلقه ذات يوم مبكر الرئيس الجزائري الأسبق هواري بومدين، من موقع يفترض أنه تقدمي، باعتبار قضية فلسطين قضية الفلسطينيين الخاصة، بحيث يملكون وحدهم حق القبول بأي حل لها، ولا يملك بقية العرب سوى القبول بما يقبل به الفلسطينييون.

* الموقع الفلسطيني، حيث بدأت تسجل داخل منظمة التحرير الفلسطينية، مرحلة تراجعات كبرى عن عروبة القضية، تحت شعار القرار الوطني الفلسطيني المستقل، الأمر الذي تطور حتى الوصول إلى اتفاقيات أوسلو وكل نتائجها المدمرة، المتمثلة في الواقع الفلسطيني الحالي المشرذم بين غزة المحاصرة حصاراً كاملاً، والضفة الغربية الواقعة

كلياً تحت مشاريع التهويد ابتداء من القدس العربية،

العاصمة المفترضة للدولة الفلسطينية المفترضة.

إن أسوأ ما يمكن أن يرتكبه العرب والفلسطينيون في هذه الأيام، فوق كل ما ارتكبوه سابقاً، أن يشيحوا بأنظارهم عن مواقع الخلل الحقيقية التي وصلت بالقضية إلى الوضع المتهافت الذي تمر به اليوم، ويعيدوا التعلق بما تتناقله الأنباء في هذه الأيام عن وجود اختلاف في وجهات النظر بين الإدارة الأمريكية الجديدة (أوباما) والقيادة الإسرائيلية الجديدة (نتنياهو)، وأن يصبح هذا الخلاف محط آمالهم وعدتهم الوحيدة للنضال في سبيل القضية، فنقعد في أماكننا بانتظار وصول هذا الخلاف إلى حدود ما زال العرب يحلمون بها منذ عشرات السنين، وهي أن تقوم الولايات المتحدة من تلقاء نفسها، ومن غير أي جهد عربي، أو أي ضغط عربي محسوب ومدروس ومشغول، بتوجيه الضغط المطلوب على إسرائيل، للقبول بأي حل تفترضه واشنطن، حتى لو كانت تبدو في الأفق منذ الآن، رغبة أمريكية - إسرائيلية مشتركة، بإلغاء حق العودة إلغاء كاملاً، ما يوازي إلغاء الحقيقة الكبرى من حقائق القضية الفلسطينية كما انفجرت في العام 1948.

هل يريد العرب أن يتعرفوا إلى الوزن الحقيقي لقضية فلسطين في المحافل الدولية اليوم، بعد ما انسحب العرب من القضية، وتركوها بلا مرجعية ذات وزن على الصعيد الدولي؟

ما عليهم سوى مراجعة منظر انسحاب ممثلي الدول الأوروبية زرافات ووحدانا من قاعة اجتماع مؤتمر ديربان الثاني في جنيف (بعد الانسحاب المسبق لأمريكا ومن يدور في فلكها من دول)، بمجرد أن تجرأ الرئيس الإيراني على التذكير بحقائق العام 1948 للقضية الفلسطينية، بلهجة شديدة التهذيب، شديدة الهدوء والدبلوماسية، على غير عادة الرئيس الإيراني.

حتى هذا التذكير بحقائق 1948 الأساسية، أصبح ممنوعاً ومرفوضاً رفضاً قاطعاً.

هل عرفت القضية الفلسطينية في أحلك ما مر بها من ظروف، يتماً سياسياً كهذا الذي تعانيه اليوم؟

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"