حتى لا تموت الغافة

03:58 صباحا
قراءة دقيقتين
صفية الشحي

في إحدى قصص الكاتبة الراحلة عن عالمنا مريم فرج جمعة، رحمها الله، بعنوان «غافة والمجنون» تقول «تشبه الغافة، هي جسد الغافة الذي يمتلئ رغم جفافه» وللغافة سر لا تفصح عنه الوريقات إلا لمن امتلك إكسير الحكاية، وجن تحت المطر كطفل يلعق ضحكته الأولى تحت نزف السماء، ومريم، الماء والفيروز - وكلاهما نفيس - اللذان تدفقا من بين أصابع الحكاية قبل أن نتذكر في خضم هذه الحياة، أن للرحلة نهاية تخطفنا من الحبكة، وقبل أن ندرك أنها أطلت -كما الحياة- من ثقوب النخلة والناس والمطر».
هذا القلم الرقيق كان عباراً، التقانا بوجوه متعددة، فصنع لنا ذاكرة أولى على مقاعد الدراسة في تسعينات القرن الماضي، لقد كتبت لنا مريم هي المشغولة والمنحازة إلى ما يشبهنا أو ما نشبهه، وقدمت لنا أنفسنا كما لم نعرف من قبل، إنها امرأة استثنائية، مثل كل كاتبات هذا الوطن الكبيرات مقاماً وتجربة وخبرة مع القلم، ممن قررن مواجهة إصرار الوقت على «الموضوعية»، وهي ساكنة رغم أن السطح يتكشف عن شيء منها، ومستحضرة لشخصيات ذابت -أو كادت تذوب- بفعل القفز على دواليب المعنى، أو الهجران القسري للغرابة.
إن الغافة التي صمدت في وجه الريح والجفاف زمناً، استقالت من صمتها الغائر في الجذوع، وانطلقت تغني كما فعلت غافات أخرى، إلا أن الحكاية الأولى فاتتنا، نحن من نتصدر لمشهد الإعلام والثقافة، فقد ابتلعنا الطعم، وقررنا أن نفكر باليومي وحده، المطبوخ على سخونة الأحداث المثيرة للجدل والسارقة للوعي، وفي غمرة كل ذلك، لم ننتبه للطيور التي رحلت إلى جزر بعيدة كل البعد عن متناول أيدينا وجيوبنا، إلى حيث لا يمكن مراقبة ماء الحياة وعصافيرها، إلا بعد الإياب الراحل إلى الأبد «فعندما تموت النخلة نعرف كل شيء» كما تقول مريم.
إن ما سينقذنا في عبورنا هو «كان يا ما كان» التي تطل برأسها من ثقوب الذاكرة، ومن سيعيننا على فهم الغد هم حراس المنارة المعقود بأيديهم خيط نجاتنا الأخضر، ولا سبيل لذلك سوى العودة إلى ما كتبوا، ليكون جزءاً حاضراً من تركيب ذهنيات أبناء اليوم، المأخوذين بالتكنولوجيا العابرة للجغرافيا والزمن، فقد آن الأوان لإعادة المجد لفن القص حتى وإن اعتزله أهله بعد أن شهدوا منا جفاء للكلمة وخوفاً من التأويل.
أما أسماء مريم جمعة فرج، رحمها الله، وشيخة الناخي وسلمى مطر سيف وابتسام المعلا وأسماء الزرعوني وسارة الجروان وشيخة عبد الله وغيرهن، فيجب ألا تغيب عن بيوتنا ومناهجنا الدراسية المعاصرة ومحافلنا الإبداعية وتكريماتنا الرسمية، وقبل كل ذلك يجب ألا تغيب عن رصدنا الإعلامي بأشكاله المرئية والمسموعة والمكتوبة والإلكترونية، فمن ليس له حكاية، ليس له ماض ولا حاضر ولا مستقبل.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"