حوار في التكفير وداعش

05:26 صباحا
قراءة 6 دقائق
د . يوسف الحسن
جاءني غاضباً، وهو الذي عرفته حليماً عقلانياً، ويذعن لله بالطاعة، وقال: أهمس، كطالب علم، في آذان المتخصصين في الفقه وأصوله، والعارفين بطرائق الاجتهاد وضوابطه، والمدركين للعبرة في الاجتهاد، لأسألهم عن الحكمة في التحدث عن الكفر والإيمان والمتعلق بتنظيم "داعش" وسلالاته الإرهابية المماثلة، وعن نتائج امتناع بعض العلماء، وربما مؤسسات دينية معتبرة عن تكفير "داعش" وأعمالها وممارساتها في الواقع المعاش والمعلوم .
نعرف، أن التكفير مسألة خطرة علمياً، "وأنه يتعذر الحكم بكفر أي إنسان إلا بعد مناقشته وسؤاله عن حقيقة أفعاله، حتى لو كان من القتلة"، كما يقول أمين عام هيئة كبار علماء الأزهر . لكن كيف يمكن (على سبيل المثال) عملياً استدعاء "البغدادي" أو قادة وعلماء الدواعش، للمناقشة والسؤال، عن حقيقة أفعالهم الإجرامية الموثقة بالصوت والصورة والعين المجردة؟ فضلاً عن فكرهم المعلن والمكتوب والخارج على صحيح الإسلام، وغلوهم وتعسيرهم على الناس؟
ما هي القيمة العملية التي يمكن تحصيلها من فتوى/علماء تقول: "لا أكفِّر داعش"؟ هل تحقق هذه الفتوى مصلحة للناس؟ وهل تمنع الفوضى والفتنة، وسفك دماء نفوس حرَّم الله قتلها، واغتصاب نساء، وتشريد خلق؟
تركت صاحبي، يسترسل في أفكاره وأسئلته، وهو الكاتب والأديب، والسياسي المخضرم، وقلت له، زدني، هات ما عندك .
قال: ماذا تقول في أناس، استسهلوا رمي مجتمع بكامله بالكفر، وأخرجوا أهله من دين الله، وسبوْا النساء والأطفال، وقتلوا الأبرياء ابتغاء للغنيمة والسلطة، وتعدوا على حقوق الناس، وصادروا حرياتهم، وانتهكوا كراماتهم، أليسوا هم "كَفَرة"، أو على الأقل هم للكفر أقرب منهم إلى الإيمان؟
وأضاف: لقد شوَّهوا صورة الإسلام، أكثر مما شوهها أعداؤه التقليديون، واستحلوا دماء المسلمين وغير المسلمين ممن لم يقاتلونا في ديننا، ولم يخرجونا من ديارنا . هل أعمالهم هي مجرد مآثم وذنوب؟ أليسوا هم في حكم الشريعة "لهم في الآخرة عذاب أليم"، وجزاؤهم أن "يُقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف"؟
وتساءل بحرقة: هل عدم تكفير الدواعش، يسهم في نفور الناس، وبخاصة الشباب من تنظيم داعش وأمثاله؟
أم أنه "يستر" عليهم سوءاتهم وقبحهم، ومعاداتهم لجوهر الدين؟ وهل هذا الموقف يعِّري هذه الجماعات المتوحشة، من ردائها الزائف، وزعمها بأنها "العصبة المؤمنة الناجية" وبالتالي، يقصِّر ذلك من عمر التطرف الديني العنيف أم أنه يخدمها، ويسهم في تمددها، واستطالة مخالبها وأنيابها وأفكارها؟ ألا يجذب هذا الموقف، الآلاف من المناصرين لها في مجتمعات غربية وآسيوية وإفريقية، وكثير من هؤلاء ذوو فهم سطحي للإسلام؟
وتساءل صاحبي: كيف يفسر لنا أصحاب هذا الموقف الذين لا يكِّفرون "داعش"، الكثير من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تقول "ليس منا من فعل كذا، أو قال كذا"؟ وهل أحكام "داعش"، وتعاليمه وممارساته وإدارته لشؤون الناس، تنسجم مع "ما أنزل الله"؟ ألم يفتروا "على الله الكذب" . وهم يحللون السرقة والقتل، واستباحة دماء حرَّم الله قتلها؟
وإذا كان الكفر هو كفر العقيدة، فأية عقيدة هذه التي يحكمون بها؟ وهل هو حكم الله؟ أم أنه خروج عليه سبحانه؟
وهل يكفي القول إن الدواعش آثمون بغاة، وفاسقون، وتعاملوا بغباء شديد مع تراث الأمة، وحرّفوا الكلم عن مواضعه، وقدموا حديثاً شريفاً معروفاً: "أمرت أن أقاتل الناس، حتى يقولوا لا إله إلا الله"، وقدّموه على آية قرآنية، ومبدأ قرآني "لكم دينكم ولي دين"، وجهلوا أن هذا الحديث النبوي، قيل مع نزول سورة براءة، قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بنحو عام، وبعد جهاد رهيب مع وثنيات، أعطاها الإسلام حق الحياة! ولم تُعطه إلا الموت، على حد قول الشيخ محمد الغزالي .
لا يريد صاحبي التوقف عن الكلام: وحاولت أن أهوِّن عليه، وخرجت منه زفرة حزينة، وهو يقول: لقد سفكوا دماءً حراماً، وقطعوا السبيل، هؤلاء طغاة بغاة، أضلهم الله، ظلموا الناس، ومنعوا الخير، واعتدوا، والكافر العنيد، هو "منَّاع للخير، معتد مريب" كما يقول الله تعالى .
***
يبدو أن مشاعر صاحبي، ومسوغاته، هي مشاعر عامة الناس، مشاعر الملايين من العرب والمسلمين، ممن راعهم هذا العنف الوحشي، الذي تحول إلى وباء، ولو عولج مبكراً لأجهض في الرحم .
صمت صاحبي، ولجم غضبه، لكنه استمر مخنوقاً بحزنه، قلت له - برفق وأناة: نعم . . هناك فتاوى لا تزيد الأمة إلا بلبلة وحيرة، إلا أنه من حق العلماء وواجبهم ممارسة الاجتهاد، وفتح الآفاق التي تعيد إلى العالم الشعور بسماحة الإسلام وإنسانيته وعظمة مبادئه .
والعبرة في الاجتهاد، أن يحقق مصلحة للناس، وأن يتجدد في كل عصر، بحسب حاجة الناس إليه، وأن يزيل تهمة الغموض الموجهة إلى الإسلام، بشأن مرتكبي هذه الأعمال المشينة، وممارسي أسوأ صور الظلم والطغيان وانتهاك الحرمات والكرامة الإنسانية، وبالقطع، فإنه لا يجوز لأحد أن يحكم على الإسلام بسلوك أتباعه، وإنما الواجب الحكم على الناس بمدى قربهم أو بعدهم عن جوهر الإسلام وقيمه الإنسانية .
قلت لصاحبي: إن عدم تكفير داعش، لا يلغي ضرورة قتاله، واجتثاث فكره، والتاريخ يحدثنا أن علياً بن أبي طالب كرم الله وجهه، قاتل الخوارج، ورفض تكفيرهم في الوقت نفسه، باعتبار أن الكفر قضية شرعية، لا يملكها أحد، سوى الله تعالى، ومسوغاتها دينية بحتة، منفصلة عن أمور الدنيا، من سياسة وأدب وفن . . الخ، وإن الفصل في الكفر، لا يملكه سيد قطب وأتباعه، وهو الذي أصَّل للفكر التكفيري، وكفَّر المجتمع وعامة الناس، وأفرغ كل ذلك في كتابه "معالم في الطريق"، ورأى أن كل المجتمعات قد أصبحت "جاهلية"، ليس فقط في سلوكها، بل في "جاهلية العقيدة" . . بمعنى أنها الشرك والكفر بالله . واتهم معارضيه من علماء المسلمين، بالسذاجة والغفلة والبله، فضلاً عن الوهن والهزيمة النفسية .
ما نحتاج إليه اليوم: هو تناول ظاهرة التطرف الديني الوحشي والتكفيري، من خلال تفكيك هذه الظاهرة وتحليلها ونقدها ومكافحتها فكرياً وثقافياً وتربوياً وعسكرياً، وتأسيس نهوض فكري، وإصلاح مجتمعي وديني حقيقي .
نظرت إلى صاحبي، وقد هدأ وقلت له: هل تريدنا أن نكون تكفيريين مثل داعش، فنحكم بكفره؟ هم ظالمون ومجرمون وفاسقون وبغاة، يستحقون القتال، حتى لا تكون هناك فتنة وخراب وتسلط على الناس، واستباحة للدماء والأموال .
هم حين خاصموا فجروا، وحين عاهدوا غدروا، وحين تحدثوا عن الإسلام كذبوا، وعطّلوا آيات كريمة، نهت عن قتل النفس التي حرم الله قتلها .
قاطعني صاحبي قائلاً: ما أخشاه، أن عدم تكفير الدواعش، سيزيد من "سحرهم الغامض" في جذب آلاف من القتلة الجوالين، أو أن يؤدي عدم تكفيرهم، إلى قبولهم كأمر واقع، وبخاصة "أن كل تكنولوجيا الرصد الغربية (لم تستطع) حجب المواقع الاجتماعية الإلكترونية لداعش" .
سارعت بالقول: من الأفضل استبدال جملة (لا تريد) بجملة (لم تستطع) . ومع ذلك، علينا أن نثق بأن ظواهر التكفيريين والإرهابيين، هي ظواهر عابرة، ومصيرها الفشل، طالما امتلكنا الإرادة والوعي، وأدركنا فهم وممارسة صحيح الإسلام، وأعطينا عناية كافية من البحث والدراسة والتأسيس لفقه سياسي معاصر (فقه القانون العام)، حيث ظل هذا الفقه جامداً لقرون عدة، وما وصلنا سوى ترديد لما عرفه أهل الزمان الغابر، من تفاصيل لمشكلات أو مواقف، واجهت أجيالاً معينة، فاجتهد علماء بشأنها .
* من ناحية أخرى، فإن المهم في هذه الفتوى الأزهرية، المتعلقة بعدم تكفير داعش، هو إنهاء ثقافة التكفير في حياتنا السياسية ومؤسساتنا الدينية .
* سينتهي داعش غداً أو بعد سنين، مثلما انتهى الخوارج، وأصحاب التكفير المعاصرون من أمثال المودودي وسيد قطب وسلالات طالبان والقاعدة والدواعش، لكن فكر التكفير، سيظل في ثنايا وزوايا وعقول، طالما هناك جاهلون وضالون .
* لقد تسربت ثقافة التكفير، في الربع الأخير من القرن العشرين، إلى بعض هيئات الأزهر، وقام علماء بمهاجمة نجيب محفوظ، بتهمة الالحاد، وكفروا نصر حامد أبو زيد، وطالبوا بتطليقه من زوجته، وحكم علماء آخرون، بالكفر على الكاتب والأكاديمي السعودي تركي الحمد، وقبلهم مارس النميري (أمير المؤمنين) في حكم السودان، ما مارسته محاكم التفتيش الإسبانية، حينما اتهم الشيخ محمود محمد طه بالكفر والردة، وتم شنقه، بدعم من السياسي وعالم الدين والقانون حسن الترابي . . والأمثلة كثيرة .
* نعم . . يا صاحبي، لقد مر زمن، على مؤسسات دينية معتبرة، وعلماء، استسهلوا فيه التكفير، وحكموا على أدباء وكتّاب وشعراء بالكفر، وأخرجوهم من الإسلام، فهل يؤسس هذا الموقف الأزهري الشجاع والصحيح، نهاية لثقافة التكفير، هذه الثقافة التي ولدت التباغض والانقسام والفتنة .
المهم هو كيف نبرز هذا المبدأ، ونؤكده، توضيحاً وشرحاً، وألا نتركه يضيع في ضوضاء الأحداث، وارتباكات الناس .
يا صديقي، كم اتمنى أن يبادر الأزهر الشريف اليوم، فيعيد الاعتبار إلى من تم تكفيرهم في السنين الماضية .
. . . . . . . . . .
الإيمان والكفر . . هما ما بين الإنسان وربه . واستحضار الإيمان في السياسة، تدمير للدين ولحياة الإنسان في آنٍ معاً .
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"