عن علاقة العرب بالدول الكبرى

04:44 صباحا
قراءة 4 دقائق

كيف تجري الأمور في علاقات الدول الصغرى، بالدول الكبرى؟ سؤال طالما كان يطرح في العلاقات الدولية منذ قديم الزمان، لكن من المؤكد أنه أصبح يطرح بدرجة أكبر منذ العقد الأخير في القرن الماضي، أي منذ انهيار الاتحاد السوفيتي السابق، وتفرد الولايات المتحدة بزعامة منفردة للنظام السياسي الدولي الجديد .

لقد شبه عدد وافر من كبار المحللين وأساتذة العلوم السياسية هذا العصر الجديد، بأنه عصر الامبراطورية الأمريكية، في مقارنة بين وضع روما في السياسة الدولية أيام الامبراطورية الرومانية قديماً، ووضع واشنطن في السياسة الدولية في عصرنا الحاضر .

الحقيقة أن الحدة التي تبسط بها الولايات المتحدة نفوذها، في مختلف بقاع الكرة الأرضية، بقوة الجيوش والاقتصاد والإعلام والدبلوماسية، تسمح بالقول إن واشنطن أصبحت أشبه بامبراطورية تحكم العالم من عاصمتها، ومن خلال أنظمة الحكم المنتشرة في سائر أرجاء الكرة الأرضية، التي تشبه ولاة محليين مرتبطين بمركز الامبراطورية .

لكن هل يعني هذا، أن الحركة السياسية أصبحت ممنوعة على كل أنظمة الحكم في العالم، إلا بما يرضي السياسة الأمريكية العامة، أو على الأقل بما لا يثير غضب الامبراطورية العظمى على نظام الحكم المحلي المخالف لأوامرها؟

الحقيقة إن هذا اعتقاد غير دقيق، وإن كان واسع الانتشار وينطبق على عدد لا بأس به من أنظمة الحكم، خاصة في العالم الثالث . إلى درجة أصبحت معها معظم (بل ربما جميع) أنظمة الحكم العربية، بشكل خاص، تخشى في تحركاتها على المستوى الدولي، وحتى على المستوى الإقليمي المحلي، أن تقوم بأي خطوة سياسية جادة، إذا كان في هذه الخطوة شبهة إغضاب المركز الامبراطوري الأمريكي .

لن نتحدث هنا عن مجموعة الدول التي أصبحت واشنطن تصفها في العصر الأمريكي الحديث بالدول المارقة، فهي دول تتميز كلها بأنها تتصرف بشكل خارج على طاعة المركز الامبراطوري، أو حتى مسايرته . فالتشبه بهذه الدول قرار سياسي بالغ الصعوبة، لأنه يجر معه عدداً من العقوبات الدولية، بأوامر أمريكية، قد يصعب على بعض الأنظمة أو معظمها تحمله أو مقاومته أو تجنب متاعبه ومصاعبه .

لكننا، وتسهيلاً للأمور، سنكتفي بنموذج آخر من الدول المعروفة بأطيب العلاقات مع الولايات المتحدة، وعلى رأس هذا النموذج الدولة الصهيونية في إسرائيل . ان في تصرف هذه الدولة، كما في تصرفات بعض الدول الأخرى في أوروبا بشكل خاص، ما يثبت ويؤكد، أن باستطاعتك أن تكون مصنفاً صديقاً للولايات المتحدة، بل حليفاً يرتبط معها بأوثق العلاقات الاستراتيجية، ومع ذلك يحق لك أن ترى في بعض التصرفات أو القرارات الأمريكية، المتعلقة بالمنطقة الإقليمية التي تعيش فيها، ما يتعارض مع مصالحك، إلى درجة لا يمكنك معها الموافقة على التصرف الأمريكي أو القرار الأمريكي، حتى لو كان في رفضه احتمال إثارة الغضب الأمريكي .

ولنأخذ على سبيل المثال الواقعي، الخطة الأمريكية التي أطلقها الرئيس أوباما في عهده الجديد، للمضي في إيجاد حل سياسي لقضية فلسطين، بوصفها صراعاً فلسطينياً إسرائيلياً .

فمن المعروف أن تحرك المبعوث الخاص للرئيس اوباما في هذا الاتجاه، السيد جورج ميتشيل، قد بني على أساس أن تفرض واشنطن على تل أبيب، قبل المضي في أي خطوة، التوقف النهائي عن الاستيطان الاستعماري لأرض الضفة الغربية (بما فيها القدس) باعتبارها أرضاً محتلة .

ومع أن إسرائيل ليست مجرد حليف استراتيجي لأمريكا، (وابن مدلل لها على حد وصف وزير الخارجية السعودي) بل هي دولة تدين باستمرار وجودها نفسه إلى الحماية والرعاية الأمريكيتين، فقد تجرأت إسرائيل على التمرد على القرار الأمريكي بشأن الاستيطان الاستعماري، إلى درجة رفضه كلياً، وعلناً .

وبدل أن تتحرك واشنطن إلى الأمام، لاتخاذ خطوة تفرض على إسرائيل الامتثال (وبيد أمريكا عشرات من هذه الخطوات)، فقد رضخ الكبير للصغير، وتراجعت واشنطن إلى الخلف، تراجعاً تقهقرياً، فبدأت تطالب بالوقف المؤقت للاستيطان الاستعماري، بدل الوقف الكامل والنهائي، وحددت المهلة المطلوبة بسنتين . وبما أن الرفض الإسرائيلي بقي ثابتاً لا يتزحزح، فقد خفضت واشنطن المهلة إلى سنة واحدة، ثم إلى بضعة أشهر، لكن العناد الإسرائيلي بقي على حاله، إلى أن لحست الولايات المتحدة خطتها من أساسها، وأصبحت مثل نتنياهو، تدعو إلى ضرورة استئناف التفاوض بين الفلسطينيين والإسرائيليين بلا شروط مسبقة . أي أن واشنطن، حولت بقدرة قادر، وقف الاستيطان الاستعماري، من قرار أمريكي إلى شرط فلسطيني مرفوض .

طبعاً مر على هذه المناورة السياسية أشهر، وواشنطن كانت بحاجة فيها إلى من يساعدها على الاستقواء على العناد الإسرائيلي، وهذه المساعدة ما كان يمكن أن تأتي إلا من النظام الرسمي العربي .

لكن، بما أن أي نظام عربي، خاصة من الأنظمة ذات العلاقات الممتازة مع الولايات المتحدة، لم يقرأ جيداً في كتاب العلاقات بين الدول الصغرى والدول الكبرى في عصر الامبراطورية الأمريكية، فإنها، وكالعادة، لم تحرك أي ساكن، ما جعل واشنطن تستسهل ضرب عرض الحائط بكل المصالح العربية، والعودة عن قراراتها، ومسايرة العناد الإسرائيلي، إلى آخر مدى .

ليس المطلوب عربياً إعلان الحرب على الولايات المتحدة، ولا قطع العلاقات الودية معها، ولا حتى إثارة غضبها أو حنقها، كل المطلوب هو أن يقوم النظام العربي بخطوات من شأنها زيادة وزن العرب في الميزان الأمريكي للسياسة الدولية .

هل هذا الأمر، كما يبدو، صعب إلى درجة الاستحالة؟

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"