فرنسا.. «حوار الطرشان»

00:17 صباحا
قراءة دقيقتين

يونس السيد

تحول نظام التقاعد الذي تم إقراره خارج الجمعية الوطنية (البرلمان) إلى عنوان رئيسي للانقسام في فرنسا، بدلاً من أن يصبح وساماً على صدر إيمانويل ماكرون كونه يعد الإنجاز الأبرز والأهم للولاية الثانية من عهده، والأسوأ أنه دفع البلاد إلى أزمة ديمقراطية تخللها حوار أشبه بحوار الطرشان.

 مشهد التظاهرات في شوارع المدن الفرنسية في مواجهة السلطة وقراراتها وأدواتها.. الشرطة المدججة بكل أدوات القمع، هو التعبير الأوضح عن سير البلاد في اتجاهين متعاكسين، وسط إصرار كل منهما على كسر الطرف الآخر، فالأغلبية الشعبية التي تعارض رفع سن التقاعد لم يعد لديها أي خيار سوى البقاء في الشارع، بعد أسابيع من التظاهرات والنقاشات البرلمانية العقيمة، وبالتالي فهي تصّر على سحب القانون وإسقاطه مهما كان الثمن، بينما اختارت الحكومة التي لجأت إلى تمرير القانون من خارج البرلمان مواجهة الشارع، وهي لا تزال تصّر على تثبيته وسط توقعات بدخوله حيز التنفيذ مع نهاية العام. 

 هي إذاً معركة «كسر عظم» بكل ما في الكلمة من معنى، يدلل على ذلك خروج التظاهرات عن سلميتها في كثير من الأحيان، والتصدي العنيف من جانب الشرطة، والاعتقال والقمع بكل أشكاله، إلى جانب التهديد بوقف تمويل منظمات ومؤسسات حقوقية وخدماتية، بذريعة مخالفتها لخطط الحكومة وقراراتها وتوجهاتها. بهذا المعنى، تظهر الديمقراطية الفرنسية بصورة مرتبكة ومأزومة، ليس فقط من جرّاء ما يحدث في الشارع، وإنما من جرّاء انحيازها لطرف واحد هو السلطة، التي ترى في كل من يخالفها الرأي، خصماً مشروعاً، وبالتالي فإن الأمر يتعلق بتشويه أسس الوعي والثقافة الديمقراطية، والصورة النمطية للديمقراطية الفرنسية التي كانت تتباهى بها باريس، وتضعها مقياساً للانحراف الديمقراطي في كثير من بلاد العالم. 

 الأسوأ هو صورة فرنسا التي لم تعد تختلف عن الكثير من الدول الاستبدادية التي لطالما انتقدتها على خلفية غياب الديمقراطية، وانتهاج أساليب القمع، فعندما يصل الأمر إلى حد التهديد بوقف تمويل رابطة حقوق الإنسان الفرنسية، لعدم تبنيها موقف الحكومة، فهذا يعني أنها تواصل الإمعان في محاربة معارضيها في كل الاتجاهات. 

 ومعروف أن رابطة حقوق الإنسان الفرنسية، التي تأسست في عام 1898 أثناء قضية «دريفوس»، تدافع عن الحريات للجميع، ولم تحرم من دعم الدولة المالي إلا في فترة قاتمة من التاريخ الفرنسي، تحت حكم فيشي. ويبدو أن هذا الأمر ينسحب على كل المعارضين، بذريعة عدم الإذعان ل«الإرهاب الفكري»، من أي جهة أتى، لكن من الواضح أن السلطة لم تعد تأبه أو تأخذ في الاعتبار الانقسام السياسي والمجتمعي، وشلل الاقتصاد الجزئي والذي يمكن أن يتحول إلى شلل كامل مع استمرار الاحتجاجات على الرغم من التهديدات الموجهة للعمال والموظفين، خصوصاً أن الأزمة لم تعد تقتصر على «الديمقراطية»، بحسب المراقبين، وإنما هي أزمة اجتماعية في طريقها لأن تتحول إلى أزمة اقتصادية. ويبقى الأمل الأخير للمعارضين هو المجلس الدستوري الذي يتوقع أن ينعقد الأسبوع المقبل، فإما أن يصادق على القانون وإما أن يتم فرض منعه جزئياً أو كلياً.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/ehhwa3fc

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"