عادي

مشهدان استيطانيان

23:04 مساء
قراءة 5 دقائق
يوسف الحسن

د. يوسف الحسن
- مشهد استيطاني في ديسمبر عام 1854
قبل نحو مئة وسبعين عاماً، وقف زعيم هندي أحمر، خطيباً في موقع في الشمال الغربي الأمريكي ـ أصبح الموقع يحمل اسم هذا الزعيم (سياتل)ـ وفي حفل ضم نحو ألف هندي أحمر، من السكان الأصليين لهذه القارة الشمالية، وعدد من قادة المستوطنين البيض، وحاكم الولاية.
وفي هذه الخطبة الشهيرة، أعلن الزعيم الهندي الأحمر والذي يقود ست قبائل هندية كبرى، موافقته مكرهاً، على حل يقضي بتسليم أراضٍ تملكها هذه القبائل وتعيش تاريخياً فيها، إلى المستوطنين البيض، مقابل ترحيلهم إلى محميات منعزلة، واعتبار أن هذا الحل هو البديل عن حرب ومعارك دامية ستقع بين الهنود الحمر، وقوات الحكومة الأمريكية، وعودة لمعارك رهيبة دارت بين المستوطنين البيض والهنود الحمر، تم فيها تدجين البعض من الهنود الحمر، والقضاء على أغلبية السكان الأصليين، حتى أصبح الهندي الأحمر موضع شفقة، وجرى نقله إلى محميات قصية، وظروف حياة قاسية، وتغييب ثقافته وتقاليده وتراثه.
وقد دخل نص خطابه البليغ تاريخ الأدب الأمريكي، وقام أحد المختصين بلغات الهنود الحمر بترجمته إلى الإنجليزية، ونشرته بالعربية (دار الفارس للنشر والتوزيع) في العام 1998 ضمن «مختارات من الفكر الأمريكي»، وهي كتابات وخطب أتاحت المجال لتتبع مسار التاريخ الأمريكي، من خلال هذا الفكر.
يقول الزعيم الهندي الأحمر في خطبته وهو يرثي حال شعبه، وقومه وأرضه وتراثه:
«إن كل حبة من تراب هذه الأرض مقدسة، بتقدير أفراد شعبي، وإن كل سفح جبل، وكل وادٍ وكل سهل، قد شهد أحداثاً مؤلمة أو سعيدة في أيام تلاشت منذ زمن بعيد، وهو مقدس أيضاً».
«لقد مضى زمن كان فيه شعبي ينتشر فوق هذه الأراضي تماماً مثلما تغطي مياه البحر المائج، قاعه المرصوف بالقواقع والأصداف، بيد أن الوقت قد ولىّ إلى غير رجعة مع عظمة القبائل الهندية، وعنفوانها التي لم يبق منها إلا ذكريات حزينة، ومع ذلك فإنني لا أقف في هذا المكان لأبكي تلك الأيام الخوالي، أو أندب أفول نجمنا الذي جاء قبل أوانه، أو لأعاتب المستوطنين البيض على التعجيل بذلك؛ إذ إنني أُدرك جيداً أن جزءاً من هذا اللوم يقع على عاتقنا كسكان أصليين وقادة».
«إن رماد آبائنا وأجدادنا مقدس، والتربة التي يرقدون تحتها طهورة ومباركة، أما أنتم أيها المستوطنون البيض، فقد ابتعدتم عن مراقد أسلافكم، غير آسفين على ذلك، لقد كتب دينكم على ألواح من الصخر، بأصابع ربكم الحديدية، والرجل الأحمر، غير قادر على فهم هذه الأحكام، أما ديننا فهو تقاليد آبائنا وتراثهم، والأحلام التي تداعب صورها مخيلة شيوخنا ليلاً بوحي من الروح العظيمة، وكل ذلك محفور في قلوب أبناء شعبنا».
«ما إن يجتاز أمواتكم أبواب قبورهم، ويتوغلوا بعيداً خلف عالم النجوم، حتى يتوقف حبهم لكم ولأرض مولدهم، وسرعان ما يتم نسيانهم، وتتلاشى ذكراهم، أما أمواتنا فلن يكفوّا أبداً عن استذكار العالم الجميل الذي منحهم الحياة، إنهم لا يزالون يحبون وديانه الخضراء، وخرير مياه أنهره وجباله الشامخات، بل إنهم سيحنّون دوماً إلى لقاء ذوي القلوب من أحبائهم وأقاربهم، ويعاودون الرجوع من أرض سعيدة (الآخرة) من أجل مواساتهم وإزالة الكرب عن نفوسهم».
«لا يمكن لليل والنهار أن يتواجدا في آن واحد، لقد راح الرجل الأحمر يَفِرّ مبتعداً أمام مسيرة المستوطن الأبيض، مثلما يَفِرُّ الضباب أمام نور الصباح الباكر».
«إن قبولنا للرحيل سيكون مشروطاً بعدم حرماننا من حق القيام بزيارة قبور آبائنا وأطفالنا وأحبابنا، من غير أدنى إزعاج أو مضايقة، وأن مقاتلينا الأبطال الذين رحلوا عن هذه الدنيا، والفتيات والأمهات والأطفال الصغار، الذين عاشوا على هذه الأرض، سيواصلون في محمياتهم المعزولة، كل مساء، استقبال ظلال الأرواح الخالدة، عند عودتها إلى أرض الوطن، وعندما يهلك آخر رجل من الهنود الحمر، وتصبح ذكرى قبيلتي مجرد أسطورة يتداولها الرجال البيض، فإن هذه السواحل ستعج بأشباح أبناء شعبي الموتى، وعندما يظن أحفادكم أنهم لوحدهم فوق حقول هذه الأرض، وفي متاجرها وفوق طرقاتها، أو في ممرات غاباتها الكثيفة الصامتة، لا ينبغي لهم التوهم بأنهم بمفردهم، فلا يوجد مكان على سطح هذه الأرض كرّس للعزلة. وعندما يخيم السكون ليلاً فوق شوارع مدنكم وقراكم، وتظنون لوهلة أنها مهجورة، فإنها في الواقع مملوءة بجحافل الرجال العائدين الذين انتشروا يوماً فوقها، ولا يزالون يحبون هذه الأرض الجميلة، لن ينفرد الرجل الأبيض بهذه الأرض أبداً».
«إن الأموات ليسوا مستضعفين، هل قلت أمواتاً؟ كلا، إنهم أحياء، وكل الأمر لا يعدوا كونه مجرد عملية استبدال، عالم بعالم آخر».
«ما الذي يدفعني إلى ندب مصير شعبي قبل أوانه؟ تتعاقب القبائل الواحدة تلو الأخرى، والأمم أمة بعد أمة، مثل أمواج البحر، هذا هو نظام الطبيعة، فلا جدوى من التأسف، لعل موعد انحطاط أمتكم بعيد، لكنه آت لا محالة، لأنه حتى الرجل الأبيض الذي يسير «الرب» إلى جانبه، لا يستطيع أن يتجنب مصير عموم الناس، وسوف نرى».
......
قيل إن «أغنية البجع» أطلقت على خطبة الزعيم الهندي الأحمر، بمعنى أنها الأغنية التي ينشدها البجع عند موته، كما أنها تعني أيضاً آخر أعمال الفنان أو الشاعر قبل اعتزاله أو حتى وفاته.
- مشهد «استيطاني» عصري في 2022
في حديقة بيت عتيق، تتوسطها شجرة زيتون، وقطة تختبئ مذعورة بين الأعشاب، في حي مستباح للنهب والسرقة، اسمه «حي الشيخ جرَّاح» بالقدس المحتلة، وفي زمن يؤكد حق تقرير المصير وسيادة القانون الدولي الإنساني، جرى في هذه الحديقة، حوار مملوء بالمرارة والغضب، مثلما هو مملوء أيضاً بالعنصرية والإقصاء والسرقة، بين فتاة اسمها (منى)، وتملك البيت والأرض وشجرة الزيتون، ومستوطن أبيض بدين وبلحية شقراء واسمه (ياكوف) ومولود في نيويورك ويشعر بانتشاء خرافة قديمة، ويسعى للاستيلاء على هذا البيت.
قالت الفتاة، مخاطبة المستوطن الأبيض القادم من أمريكا: «أنت تعلم أنك لا تملك هذا البيت».
قال المستوطن الأبيض: «نعم أعرف، ويمكنك أن تصرخي في وجهي، لكني سأستولي عليه فور خروجك منه».
قالت الفتاة بشجاعة: «لكنك في هذه الحالة تسرق بيتي».
رد المستوطن الأبيض: «إذا لم أسرقه أنا، سيسرقه مستوطن آخر».
صرخت الفتاة قائلة: «ليس مسموحاً لأحد أن يسرق بيتي».
........
افتراس القدس غير ممكن، والفتاة لا تعرف أن هناك «أغنية للبجع»، وإنما تعرف أن هناك أغاني للشجاعة والصمود والبطولة والإيمان والأمل والإرداة.
يتكرر المشهد الأول في هيئة مستوطن عصري، يمشي في ظل بنادق الشرطة التي تحميه، لكن المشهد لا يتكرر في حالة «فتاة» شجاعة تملك الإرادة والمنطق والحق التاريخي والقانوني، والإصرار على مقاومة النهب والسرقة والتطهير العرقي.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/mryhpwbs

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"