الوثائق البريطانية عندما تنصف عبدالناصر

01:03 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبدالله السناوي

بالوثائق البريطانية، التي أزيح الستار عنها مؤخراً، تأكدت الحقائق الأساسية في أزمة السويس عام 1956. لم يكن تأميم قناة السويس عملاً متهوراً افتقد صوابه في لحظة طيش، ولا العدوان الثلاثي على مصر جرت وقائعه بردة فعل في لحظة غضب.

 على مدى عقود من التشهير المنهجي المتواصل للانتقاص من تأميم قناة السويس، أعلنت الحقائق عن نفسها مجدداً باعتراف موثق من الجانب الآخر، أنه لم يكن وارداً على أي نحو ولا بأي قدر تسليم القناة لمصر عام 1968 بعد انتهاء عقد الامتياز عليها.

 لم يكن ذلك غائباً عن جمال عبدالناصر، ولا كانت النوايا خافية. قبل التأميم كشفت صحيفة هندية النوايا البريطانية، اطلع عبدالناصر عليها عبر الأستاذ «فتحي رضوان»، أحد أبرز رموز العمل الوطني في مصر قبل ثورة يوليو.

 في فيلم «ناصر 56» سجل السيناريست الكبير الراحل محفوظ عبدالرحمن تلك الواقعة الموحية بما سوف يحدث تالياً من عدوان على مصر، إذا ما أقدمت على تأميم قناة السويس.  حسب ما هو مؤكد بالأوراق والمستندات والشهادات أخذ قرار التأميم وقته في الدراسة وجمع المعلومات، والتحضير لإدارتها بعد تأميمها.أعادت مصر اكتشاف نفسها في أزمة السويس.

 قيل وتردد على نطاق واسع، أن قناة السويس كانت ستعود لمصر بعد اثنتي عشر عاماً دون تأميم، أو صدام، أو حرب.

 كان ذلك وهماً سياسياً كاملاً أقرب إلى الهراء، قصد به الطعن في تأميم قناة السويس أعظم إنجازات الوطنية المصرية بالعصور الحديثة.

 وفق الوثائق، التي نشرتها ال«بي. بي. سي»، بحث خبراء بريطانيون البدائل الممكنة حتى لا تتسلم مصر قناة السويس.

الأول، إضافة نص يتعلق بقناة السويس وشركتها في أية تسوية بين مصر وبريطانيا أثناء مفاوضات الجلاء. كان مستحيلاً أن يتقبل القادة الجدد في مصر مثل هذا الاقتراح.

 بحسب تصريح لعبدالناصر في 17 نوفمبر 1954، سجلت صدمته الوثائق البريطانية نفسها: «إننا نريد تجنب أخطاء الماضي، ففي الماضي كانت مصر تنتمي للقناة، لكنه من الآن فصاعداً سوف تنتمي القناة لمصر».

 الثاني، إنشاء تحالف عسكري في الشرق الأوسط لحماية القناة والشركة العالمية التي تتحكم فيها القوى الغربية بالكامل.

 بعد فشل العدوان على مصر والهزيمة الاستراتيجية التي لحقت بالإمبراطوريتين السابقتين البريطانية والفرنسية، كان مثيراً أن تعاود الولايات المتحدة، التي آلت إليها قيادة التحالف الغربي بعد الحرب العالمية الثانية، طرح الفكرة نفسها على نطاق أوسع تحت اسم «حلف بغداد» بذريعة ملء الفراغ.

 وكان مثيراً بذات القدر أن الرجل الذي خرج منتصراً في حرب السويس تولى بنفسه قيادة العالم العربي، لإسقاط ذلك الحلف.

 الثالث، تدخل حلف شمال الأطلسي «الناتو» بصورة أو أخرى لتوفير الحماية اللازمة لتمديد امتياز قناة السويس.

 كانت تلك قراءة خاطئة لحقائق ما بعد الحرب العالمية الثانية، شاملة بروز الاتحاد السوفييتي كقوة عظمى جديدة، تنازع الولايات المتحدة على قيادة العالم.

 الرابع، فصل منطقة القناة عن مصر. هكذا بكل سفور.كان ذلك استضعافاً لمصر المستقلة حديثاً واستفزازاً لإرثها الوطني، الذي دعا مواطنيها للقتال في بورسعيد ضد قوات الغزو.

 قيل إن مصر قد هزمت في حرب السويس. لم يكن ذلك كلاماً جديراً بأي نقاش، فالحروب تقاس بنتائجها السياسية. وقد خرجت مصر بعد الحرب قوة كبرى في محيطها وعالمها.

 الخامس، وضع القناة تحت سيطرة الأمم المتحدة. كان تقدير الخبراء أنفسهم أن مثل هذا السيناريو غير قابل للتطبيق «لأنه يمس كرامة المصريين وسمعتهم» و«لصعوبة إقناع دول العالم الأخرى بتأييده».

 ثم فكر البريطانيون في تشكيل تحالف شركات «كونسرتيوم» من القوى البحرية الأساسية المعنية بالقناة، وهي على سبيل الحصر حسب الوثائق: المملكة المتحدة، فرنسا، الولايات المتحدة، هولندا، إيطاليا، النرويج.

 إذا كان هناك من يعتقد أن استقلال القرار الوطني يُمنح ولا يُنتزع فهو واهم، لكل استقلال تكاليفه وتضحياته ومعاركه.

 اكتسبت مصر استقلالها الوطني الكامل في حرب السويس بفواتير الدم المبذولة وشجاعة أبنائها الذين هرعوا لحمل السلاح في مواجهة العدوان الثلاثي، البريطاني- الفرنسي- الإسرائيلي.

بحسب تقرير استخباراتي أمريكي- ربيع (1956)- كشف عنه الأستاذ «محمد حسنين هيكل» في كتابه «ملفات السويس»، فإن خطط الانقلاب والغزو وقتل جمال عبدالناصر سبقت قرار التأميم.

انطوى ذلك التقرير على دعوة بريطانية صريحة لاستخدام القوة المسلحة، لإسقاط الحكومة المصرية، بالمشاركة مع إسرائيل.

 قيمة الوثائق البريطانية أنها تعيد تأكيد ما هو ثابت في وثائق وشهادات بلا حصر عن أزمة السويس.

 نقد تجربة عبدالناصر حق مشروع حتى نتعلم من دروس التاريخ، غير أن الافتراء قضية أخرى وتكريس الهزيمة في الوجدان العام، جريمة كبرى لا تغتفر.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3zudxe5x

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"