روسيا والشرق الأوسط الجديد

03:50 صباحا
قراءة 4 دقائق

دأب الإعلام الدولي والإقليمي على التعامل مع مقولة الشرق الأوسط الجديد وكأنها مصطلح وثيق الصلة بالسياسة الخارجية الأمريكية منذ أن بدأت واشنطن تنفذ خطتها المتعلقة بالمنطقة، مع وصول المحافظين الجدد إلى السلطة في الولايات المتحدة الأمريكية في عهد الرئيس جورج بوش؛ وأخذ هذا التعبير السياسي دلالات سياقية وتداولية جديدة غداة الغزو الأمريكي للعراق . ويبدو أن المشهدين العربي والعالمي الراهنين يؤشران إلى أن مقولة الشرق الأوسط الجديد ستتبلور بداية من هذه المرحلة، وفق منظور جديد على ضوء التطورات السياسية الجارية على خلفية الأزمة السورية . فقد استطاعت روسيا أن تثبت على أرض الواقع أن الشرق الأوسط الجديد يمكن أن تكون له صياغات ودلالات مغايرة، لا ترتبط بالضرورة بالتصورات الغربية والأمريكية التي أرادت أن تهيمن على دول المنطقة وتدفعها إلى التخلي عن مقتضيات أمنها القومي، والقبول بإسرائيل كمكون أساسي في معادلة التوازنات الكبرى في الشرق الأوسط، ونحسب أن التحولات السياسية التي حدثت في مصر سمحت بإعطاء مزيد من الزخم للدور الروسي الجديد، من أجل إعادة شيء من التوازن في العلاقات الدولية التي هيمنت عليها الأحادية القطبية منذ انهيار الاتحاد السوفييتي .

لقد أصبح هذا الشرق الأوسط الجديد الذي نتحدث عنه ممكناً عملياً نتيجة متغيرين رئيسين، أولهما - بداية- تراجع الهيمنة الأمريكية على العالم وانشغال واشنطن في مواجهة أزماتها الاقتصادية والاجتماعية الداخلية لاسيما بعد تلقيها ضربات موجعة في العراق وأفغانستان، وثانيهما استعادة روسيا روح المبادرة السياسية وتصدرها للمشهد السياسي العالمي كقوة عظمى جديدة تريد أن تستعيد جزءاً من مناطق النفوذ التي كان يحتكرها الاتحاد السوفييتي السابق . وتمثل هذه التطورات عناصر تأثير حاسمة في مسار إعادة رسم خارطة الشرق الأوسط الجديد، إذ إنه وبصرف النظر عما ستؤول إليه الأحداث في سوريا، فإن الشرق الأوسط الجديد لن يكون لقمة سائغة بين مخالب الولايات المتحدة والقوى الاستعمارية التقليدية كبريطانيا وفرنسا . ومن ثمة فإن الأمر لا يتعلق بمصير تغيير النظام في سوريا من عدمه، بقدر ما يرتبط بالتوازنات الجديدة التي سيفرزها الصراع الدولي بشأن الأزمة السورية، وبالتالي فإن التطورات المتعلقة بتوجيه ضربة محتملة لسوريا وعقد مؤتمر جنيف 2 سيكون لهما تأثير إضافي وملموس على مستقبل هذا الشرق الأوسط الجديد الذي باتت تفوح منه رائحة أحراش جبال الأورال المنبعثة من أعماق روسيا الاتحادية .

لا شك من ناحية أخرى، أن روسيا قد استطاعت أن تُقنع إلى حد بعيد المجتمع الدولي أن اللجوء إلى استعمال القوة ضد سوريا خارج إطار الشرعية ستكون له تداعيات خطرة على السلم العالمي، وبالتالي فقد نجحت في الدفع بالقوى الغربية إلى حصر المواجهة -على الأقل في المرحلة الراهنة- على المستوى الدبلوماسي وداخل أروقة الأمم المتحدة، وتحديداً في هذه الفترة الانتقالية التي لم تعد فيها واشنطن قادرة على تشكيل تحالف دولي واسع من أجل دعم استراتيجيتها العسكرية المستندة إلى شعارها الخالد إما أن تكون معنا أو أن تكون ضدنا . ومن الواضح في كل الأحوال أن روسيا قد استطاعت بكفاءة كبيرة أن تقنع قسماً كبيراً من المجتمع الدولي، أن اللجوء إلى استخدام القوة ضد دول ذات سيادة خارج مظلة الأمم المتحدة، سيؤدي إلى تقويض أسس النظام الدولي .

ونستطيع الزعم في هذه العجالة أن الخطة الروسية بشأن وضع الأسلحة الكيماوية السورية تحت المراقبة الدولية كان لها تأثير كبير في ترجيح كفة الحل الدبلوماسي، لاسيما أن موقف الرئيس الأمريكي بشأن توجيه ضربة عسكرية لسوريا بدا متذبذباً إلى حد كبير، لأن الولايات المتحدة ليست مستعدة في المرحلة الراهنة من أجل احتواء الآثار التي يمكن أن تحصل عن هذه الضربة على المستويين الإقليمي والدولي . ويمكن القول تأسيسا على ما سبق إن روسيا استطاعت أن تفرض على خصومها الغربيين إيقاعاً متميزاً في مسار الأحداث، حيث إنه ورغم الجهود الفرنسية والبريطانية المحمومة والبائسة، فإن موسكو تمكنت من أن تحوّل الملف السوري إلى ملف ثنائي، يجري التعامل معه بشكل مباشر بين روسيا والولايات المتحدة . وعليه فإنه ورغم المحاولات الغربية المتواصلة من أجل تحقيق سرعة أكبر في إيقاع الأحداث، فإن الدبلوماسية الروسية مازالت محافظة على توازنها وثباتها، وهذا ما جعل الأصوات الغربية ترتفع تارة وتنخفض تارة أخرى كلما سارعت موسكو إلى تحريك قطع دبلوماسيتها التي نجحت، حتى هذه اللحظة، في المحافظة على تماسكها ورباطة جأشها .

إن تفسير مسألة تماسك الموقف الروسي بناءً على الهشاشة المفترضة لموقف أوباما غير صحيح في اعتقادنا، لأن الموقف الأمريكي الجديد يعتمد في جوهره على قراءة حذرة لطبيعة التطورات الجيوسياسية والجيواستراتيجية التي تحدث في المنطقة وفي العالم برمته، وباستطاعتنا أن نضيف في السياق نفسه، أن غياب خارطة طريق أمريكية واضحة بشأن سوريا ساهم إلى حد بعيد في دفع روسيا إلى إطلاق أرانبها الدبلوماسية التي باتت تحدث صخباً كبيراً على مستوى تصريحات وتعليقات الفاعلين الرئيسين في الملف السوري .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"