حرب السودان.. من نصدّق؟

00:23 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمود حسونة

في أوقات الحروب تكثر الشائعات والأكاذيب وتتوه الحقائق، يتساوى ذلك إذا كانت الحرب بين حلف وآخر، أو بين دولة وأخرى عدوة لها، أو بين أشقاء جمعهم وطن ونشرت العداوة والبغضاء بينهم أطماع قادة يريدون اختطاف الوطن من أهله والخروج به من مسار التنمية والنهوض إلى مسار التخريب والتدمير أملاً في أن ينفرد أحدهم أو بعضهم بالكرسي والقرار. 

  المتابعون لما يحدث على أرض السودان بين الجيش و”قوات الدعم السريع” يبحثون عن الجديد في ميادين القتال بين الفضائيات ومواقع التواصل، ولكنهم يعيشون الحيرة والتيه من التدفق الإخباري المتناقض والمضلّل للرأي العام؛ فالخبر الذي يعلنه هذا الطرف سرعان ما يكذبه ذاك، والمعلومة التي يروّجها المناصرون للجيش يرد بنقيضها المناصرون للدعم؛ فكل طرف يؤكد منذ اندلاع الحرب الملعونة أنه المنتصر، وأنه من سيقود الآخر إلى المحاكمة، وأنه الأحرص على حياة المدنيين، وأنه من سيعيد الحكم لهم، وأن الآخر هو من أشعل النار وهو المهزوم، وجنوده غير مؤهلين، وقادته هاربون أو متذمرون، وأن هذا الآخر هو من يقتل المدنيين ويقصف المناطق السكنية والمستشفيات والبِنى التحتية، وهو من يعتدي على البعثات الدبلوماسية، ويسرق، وينهب، ويقتحم المنازل والمؤسسات، وينشر الفوضى، ويخوض حرب عصابات في الشوارع، وهو من يقنص المارة، ويبث الرعب في القلوب... أما الحقيقة الوحيدة والمؤكدة فهي أن السودان وحده الخاسر.  

  الحرب ليست طائرات تقصف، وصواريخ تنفجر، وجنوداً يتواجهون، ومسلحين يكرون ويفرون فقط، ولكنها أيضاً حرب إعلام تعتمد تزييف الحقائق وتعظيم كل طرفٍ قدراته والتشكيك في قدرات الآخر، ويتوازى مع التخطيط للحرب العسكرية تخطيط لحرب إعلامية. ومنذ اندلاع حرب الجنرالين في السودان وكل قناة إخبارية تبث في الفضاء العربي وضعت لنفسها نهجاً يتوافق مع رؤى مموّليها ومواقفهم تجاه الطرفين المتصارعين؛ فالخبر الذي يتصدر نشرات أخبار قناة ربما لا تجد له وجوداً على أخرى، والتصريح الذي تتبناه هذه تحليلاً وتأويلاً قد تتجاهله تلك، وهو ما يرفع درجة الضبابية ويضع من يبحث عن الحقيقة في حالة “حيص بيص”، وقد زاد من حالة التيه ظهور مئات الصفحات مع اندلاع المواجهات على مواقع التواصل المجندة دعائياً لأحد الطرفين تضلل بالكلمة والصورة، وأخبار ومعلومات وصور وفيديوهات وأرقام؛ طرف يتحدث عن التزامه بالهدنة، والآخر يرد بالصور الحية التي تؤكد خرقه إياها، طرف يتحدث عن حمايته المدنيين والآخر ينشر أدلة تؤكد اتخاذه إياهم دروعاً بشرية. 

 الطرفان المتحاربان انغمسا في حرب تخريب العاصمة، وتدمير المدن، وترويع الناس، وملاحقة الدبلوماسيين، والخروج عن كل قانون وعرف دولي وإنساني، ودول العالم القريبة والبعيدة جغرافياً مشغولة بإخراج دبلوماسييها ورعاياها من الجحيم، وترك المواطن السوداني وحيداً لمواجهة قدره المحتوم على أيدي حليفين أصبحا عدوين، ويتوعد كل منهما الآخر بالويل والثبور وعظائم الأمور، ويعملان معاً على خراب السودان. 

حرب السودان لا أمل في وقفها في القريب، ولا أمل في أن تجد المبادرات الصادرة من أطراف عربية وإقليمية ودولية آذاناً صاغيةً وعقولاً متفتحة لإطفاء الحريق قبل أن يأكل الأخضر واليابس ويتجاوز حدود السودان إلى دول في الإقليم حسبما حذر أمين عام الأمم المتحدة من “حريق كارثي يمكن أن يبتلع المنطقة بأسرها”، فكلا الطرفين يريد إفناء الآخر والاستفراد بالوليمة، ولا يعي أن الوليمة لن تبقى لأحد إذا طال أمد الصراع، والذي من المؤكد أنه سيتوسع وصولاً إلى الرضوخ  لشروط الخارج الطامع في ثروات البلاد والراغب في فرض من يديرها وفقاً لمصالحه وتنفيذاً لإرادته. 

 لقد بدأ التضليل والتزييف منذ لحظة انطلاق الشرارة الأولى؛ إذ ألقى كلا الطرفين بالمسؤولية على الآخر مبرئاً نفسه، وفي النهاية لن يخرج أي منهما رابحاً، وسيكون السودان هو المجني عليه، وستطول شظايا الحرب دول الجوار سواء بتدفق الهاربين من الجحيم إليها أو بتوريطها فيها حسب رغبة المخططين، وسيرتفع حجم الكارثة، ولا يستبعد أن يخرج السودان منها بخريطة جديدة يطالها بمزيد من التقسيم.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3jf865bx

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"