عن أي مستقبل يتحدثون؟

00:33 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمود حسونة

مثل كل الكوارث الكبرى، احتلت حرب الجنرالين في السودان كل مساحة الإعلام السياسي والإخباري العربي في أيامها الأولى، وكانت حديث الناس والإعلام على امتداد الوطن العربي والعالم، وأصبح غير المعنيين بالسياسة وأزماتها والحروب وويلاتها معنيين، ومع مرور الوقت تقلصت مساحتها تدريجياً حتى أصبحت مجرد خبر تتضمنه نشرات الأخبار وأحياناً يتذيلها، وغابت عن أحاديث الناس ولم تعد أمراً شاغلاً لبال المغردين والفيسبوكيين، رغم أنها مازالت مستعرة، تحصد أرواح الأبرياء، بعد أن وصل عدد قتلاها خلال شهرها الأول 676 مدنياً، و5567 جريحاً وعاجزاً ومشوهاً، واقترب عدد نازحيها ولاجئيها من المليون في الداخل والخارج. 

 بينما يجلس ممثلون عن الجيش السوداني وقوات الدعم السريع معاً في مدينة جدة بمبادرة سعودية أمريكية؛ بحثاً عن لغة تفاهم مشتركة.. تدكّ أسلحة الطرفين منازل المدنيين، ولا يهز صراخ الأطفال ولا رعب الكبار ولا رائحة الموتى جفن أيٍّ من صناع الأزمة المتصارعين على سلطة لن تبقى لهم، ولن يقبل أهل السودان ببقاء القرار في أيدي أيٍّ من صناع الخراب وقتلة الناس. 

 يوهمون الشعب السوداني وكل مبادر للبحث عن حل لهذه الأزمة بأنهم مستعدون للاستجابة لمبادرات الحل، ولكن أفعالهم وخروقاتهم المتكررة للهدن، وعدم التزامهم بما يوقع عليهم ممثلوهم في جدة يؤكد أنهم ليسوا أهل حلّ، وأن الأزمة الحالية ستمتد حتى يعمّ الخراب السودان، وينتقل منه إلى دول في الإقليم. 

 الطرفان المتقاتلان لا يشغل أي منهما سوى التباهي بما دمّر وخرّب، والجنرالان لا هَّم لهما سوى الادعاء بتواجده وسط جنوده، وإعلام الداخل والخارج بأن جنوده يتمتعون بروح قتالية عالية، وإيهام الجميع بأنه سِيق إلى هذه الحرب وهو غير راغب فيها، وأن الخراب الذي يحدثه هو لمصلحة الشعب السوداني ومستقبله. 

 عن أيّ مستقبل يتحدثون، وهم الذين يقتلون الحاضر والمستقبل، مثلما قتل أسلافهم الماضي ليعيش هذا الشعب العظيم في سلسلة من الأزمات منذ استقلاله وحتى اليوم، ولم يستحوذ عليه الأمل إلا في الفترة التي تحمّل فيها المسؤولية الجنرال الذهبي عبدالرحمن سوار الذهب، الذي وعد وأوفى، وتخيل أن اللاحقين سيحافظون على المكتسبات التي حققها خلال عهده القصير للأجيال اللاحقة، ولكنهم لم يفعلوا، وتصارعوا وتقاتلوا بعد أن تحالفوا، لأجل مجد وهمي وسلطة يمتلكونها ليحكموا ويتحكموا ويعودوا بالوطن قروناً إلى الوراء ويذيقوا الناس الأمرّين. 

ما حدث بين البشير والترابي من تحالف أدى إلى تصارع، تكرر بين العسكريين والمدنيين أو مجلس السيادة وحكومة حمدوك، ثم تكرر بين الجنرالين، عبدالفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة ونائبه وحليفه محمد حمدان دقلو. 

 كل الجرائم ترتكب اليوم في السودان، قتل منظم، وعنف واعتداء على نساء وأطفال، واعتداء على البعثات الدبلوماسية، وجوع وتشرد ونهب للمحالّ التجارية والمؤسسات، وشلل في كل الهيئات وإغلاق للمستشفيات والمدارس وتحويلها إلى مراكز عمليات لمقاتلين، وعجز عن دفن القتلى في المقابر، وغير ذلك من أشكال وألوان الجريمة. 

 دول تتحرك لإخماد النار، وأخرى تفتح أذرعها للهاربين من الجحيم، ومنظمات دولية تحذر من كوارث إنسانية، والطرفان المتقاتلان يواصلان الاقتتال والتخريب والتدمير، من المؤكد أنهما استمعا واطلعا على تحذير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية من أن الصراع في السودان قد يؤدي إلى معاناة 19 مليون شخص من انعدام الأمن الغذائي الحاد، خلال ثلاثة إلى ستة أشهر، وأنهما استمعا إلى التحذيرات الأممية بشأن اللاجئين السودانيين، والصرخات الأممية وتلك الصادرة من دول صديقة من عواقب هذه المهزلة على الشعب السوداني وعلى الإقليم برمته، ولكنهما يواصلان القصف والقتل والتخريب؛ لأن ما يعني كل منهما تحقيق نصر لن يتحقق لأيٍّ منهما ما دام هناك جهات خارجية تدعم وتريد أن تلتهم هذه النار السودان والإقليم برمّته.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/bdnrww8p

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"