2015 عام «داعش»

02:36 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. مصطفى الفقي

كان لقاء الرئيس السيسي بالسيدة «نادية الأيزيدية» التي تعرضت لجرائم «داعش»، إهانة واغتصاباً وسجناً، مدعاة لفخر كل مصري، لأن تلك السيدة العراقية غير المسلمة رأت ما لا يخطر على قلب بشر، وأثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أن جرائم «داعش» فاقت التصور وجاوزت الحدود، وأنها جرائم موجهة ضد «الإسلام» بالدرجة الأولى، تشويهاً لصورته، وتمزيقاً لمكانته، ودعماً لأعدائه، مع دق «إسفين» بينه وبين الحضارة الإنسانية والجنس البشري كله، لذلك جاء لقاء الرئيس السيسي لكي يكون اعتذاراً علنياً باسم «الحضارة العربية الإسلامية»، عما فعله السفهاء منّا، والمجرمون المحسوبون علينا، والآثمون الذين خرجوا على ديننا وأساؤوا إلينا على نحو غير مسبوق في تاريخنا كله، لذلك فإنني أظن أن عام 2015 في التقويم الميلادي سوف يسجل مجموعة من الجرائم التي تفوقت في وحشيتها وضراوتها على جرائم العصور الوسطى والقرون المظلمة في عمر الحياة على الأرض.
وإذ نحن ودعنا عام المآسي الدامية، واستقبلنا عاماً جديداً نرجو له أن يكون عام تصحيح الصورة وتعديل المسار، فإننا نناقش بالضرورة عدداً من الملاحظات الحاكمة في هذا السياق:
* أولاً: إن نشأة تنظيم «داعش» تبدو واحدة من أغرب الأحداث المؤلمة في التاريخ المعاصر، فالذين صنعوه لم يتبينوا مخاطر ظهوره، ومثلما صنعت «الولايات المتحدة الأمريكية» على عينيها «تنظيم القاعدة» لمواجهة الوجود «السوفييتي» في «أفغانستان» منذ عقود عدة، ثم دفعت الثمن هي وغيرها غالياً بعد ذلك، إلا أنها لم تع الدرس وأسهمت بشكل مباشر في ميلاد ونشأة تنظيم «داعش»، وقد شاهدت حديثاً متلفزاً للمرشحة المحتملة للحزب الديمقراطي الأمريكي في الانتخابات القادمة هيلاري كلينتون التي كانت وزيرة للخارجية في إدارة أوباما الأولى، وقالت بالحرف الواحد (نحن الذين صنعنا هذا «الإرهاب»، ودعمناه، كما فعلنا من قبل في نشأة «تنظيم القاعدة»)، ولا يخالجني شك في أن هناك أهدافاً عدة، وقفت وراء ميلاد هذا التنظيم، بدءاً من تدريب ودعم «لوجستي» من تركيا بهدف إطاحة نظام الأسد، وإيجاد ركيزة لها في العراق تسمح بتحقيق بعض الأطماع الإقليمية في كل من القطرين العربيين سوريا والعراق، أما الولايات المتحدة الأمريكية ووراءها فكر استراتيجي «إسرائيلي»، فإنها تسعى لإضعاف الدول العربية وتفكيك الدولة القطرية وتحويل المنطقة إلى «كانتونات» طائفية تسمح ل«إسرائيل» بأن تطفو على السطح، وأن تسودن بل وأن تقود أيضاً، وقد أسهمت فلول الجيش العراقي المنحل، وعناصر من متمردي «الشيشان» في ميلاد هذا التنظيم بتسليح غربي أشبه بتسليح الجيوش النظامية، ورفع «الداعشيون» اسم «الدولة الإسلامية» شعاراً براقاً يستهوي من لا يعرفون الحقيقة، ويتوهمون أن الخلافة قد عادت، وأن دولة جديدة تطرح وجودها في المنطقة، فنشأة «داعش» مرتبطة بمخطط كبير لإحكام السيطرة على المنطقة، مع إعادتها إلى «العصور الوسطى» أو إلى عصر «السلطنة العثمانية» على الأقل.
* ثانياً: لقد صنع الأمريكيون كارثة كبرى عندما قاموا بإثارة «نعرة» الخلاف المذهبي بين «السُنة» و«الشيعة» في محاولة خبيثة لإحياء صراع القرن الأول الهجري، وقد قال الأمريكيون للعراقيين إن البريطانيين قد جاملوا «السُنة» عام 1920، وقد جاء الوقت لنرد الاعتبار للوجود الشيعي في «العراق»، خصوصاً بعد حل الجيش الذي حارب «إيران» ثماني سنوات بقيادة «صدام حسين»، والواقع أن إثارة نعرة «الشيعة» و«السُنة» تضر ضرراً بالغاً بالعرب والمسلمين على حد سواء، إذ إن لدينا ملايين من «الشيعة العرب» الذين تسبق عروبتهم تشيعهم، والأمر ذاته بالنسبة إلى دول مثل «مصر» التي لا تعرف إلا إسلاماً واحداً بعيداً عن تقسيمات الفرق والمذاهب حتى قيل (إن الشعب المصري سني المذهب شيعي الهوى)، انطلاقاً من ظهور الدولة الشيعية الأولى تحت حكم «الفاطميين» في «مصر».
* ثالثاً: إننا نظن أن «الإسلام السياسي» وحدة متكاملة يصعب التمييز نظرياً بين مكوناته، ولكن على المستوى الواقعي، فإن هناك ظلالًا تبدأ من «الإسلام المعتدل» لتصل إلى أعلى درجات العنف الذي يتجاوز ذلك إلى حد «الإرهاب»، وفقاً لشعارات دينية مغلوطة أو تأويلات تاريخية تفتقد إلى الدقة، وتبتعد عن روح الإسلام الصحيح، وقد كان من نتائج ذلك أن وجدنا أن كل تنظيمات «الإسلام السياسي» تدين بالولاء للحركة الأم، وهي جماعة «الإخوان المسلمين» التي انطلقت من «مصر» عام 1928، لذلك فإن الشعارات التي رفعها تنظيما «القاعدة» و«داعش» هي محاولة متطرفة في إطار حديث فج عن الخلافة الإسلامية والدولة الدينية، وهو أمر تدرك «إسرائيل» وحلفاؤها أهمية تأثيره في شق الصف داخل العالمين العربي والإسلامي، وجذب البسطاء ليصبحوا وقوداً لممارسات إجرامية لا علاقة للإسلام بها، ولا سند لها في «القرآن» و«السُنة»، ولذلك فإن التنظيمات المتطرفة هي ذات توجه واحد، مهما اختلفت المسميات والغايات.
*رابعاً: إن المراكز الإسلامية الكبرى في العواصم الغربية المختلفة مطالبة بأن تقف في المواجهة أمام العدوان الجديد على الإسلام لدرء الخطر عنه، مهما كان الثمن، ومقاومة محاولات تشويهه والإساءة إلى المسلمين في الدول غير الإسلامية، كما أن «الأزهر الشريف» مطالب قبل غيره بأن يقود ملايين المسلمين في توعية دينية مؤثرة وكشف واضح لزيف «داعش» وأخواته لأن ما يجري هو مؤامرة على الإسلام والمسلمين.
* خامساً: لم يعان بلد من الضغوط التاريخية والحصار السياسي المستمر مثلما عانت «مصر» عبر تاريخها الطويل، فجيشها الباسل يمضي في معارك ضارية لتطهير «سيناء» من جيوب الإرهاب بينما تتهدد حدودها الغربية جحافل «داعش» الإرهابية، فضلًا عن محاولات العبث جنوباً، ابتداءً من موضوع «سد النهضة» مروراً بالعلاقات مع السودان الشقيق، وصولاً إلى كل ما يجري تدبيره ضد الوطن المصري.
ولقد استعدت ثقتي بالمستقبل عندما دعتني القوات المسلحة المصرية لإلقاء سلسلة من المحاضرات في الكليات العسكرية العليا، ورأيت أننا نملك جيشاً متحد الكلمة، قوي الإرادة، يهتم بعناصر التسليح والتدريب والتنظيم على نحو يضعه في مصاف الجيوش الكبرى، ويعطينا إحساساً بالثقة في محاربة الإرهاب ومواجهة جرائمه.. إذا كان عام 2015 هو عام «داعش»، فإننا نأمل أن يكون عام 2016 هو عام التسامح الديني والاستقرار السياسي وتحقيق نصر حاسم على أعداء مصر وخصومها في كل مكان.

ينشر بترتيب مع وكالة الأهرام للصحافة

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"