لماذا الفشل في التوقعات؟

22:36 مساء
قراءة دقيقتين

د. لويس حبيقة*

في بداية الركود الكبير وعندما أصبح معلوماً أن الأكثرية الساحقة من أبرز أساتذة الاقتصاد في أهم الجامعات العالمية لم يتوقعوا حصول الأزمة، زارت ملكة بريطانيا كلية لندن للاقتصاد «LSE» وسألت الأساتذة «لماذا لم يتوقع أي منكم قدوم الأزمة؟». كان السؤال نوعاً من الصفعة في وجوههم إذ إن عدداً غير قليل منهم يحمل جائزة نوبل للاقتصاد. كان هؤلاء يغالون في قدرة الاقتصاد العالمي على النمو المتواصل، بل على استمرارية ما وصفوه بالاقتصاد الجديد أي الذي ينمو من دون حدود. حصلت الكارثة في 2008 وتأثرت صدقية الاقتصاديين وبدأ البحث الجدي عالمياً حول أسباب عدم قدرة العلوم الاقتصادية على التوقع. هل يمكن إصلاح الأخطاء أو تطوير الدراسات كي تعود الثقة إلى العلوم والاقتصاديين؟

من الإجابات المباشرة عن سؤال الملكة، ما أتى من «روبرت لوكاس» حامل جائزة نوبل للاقتصاد لسنة 1995 «لا تستطيع العلوم الاقتصادية التنبؤ بالأزمات ولا تصلح لمعالجة نتائج هذه الأزمات». في الوقت نفسه، الأزمات تشكل مراكز اختبار للنظريات والنماذج الاقتصادية بحيث يمكن للعالم التمييز بين النظريات الصحيحة والخاطئة. حاول الاقتصاديون على مدى الزمن أن يفسروا ما يحصل عالمياً بطريقة بسيطة وأنيقة علماً بأن العالم ليس بسيطاً ولا أنيقاً بل يعتمد على الإنسان المتطور والمتقلب دائماً. قال الاقتصادي «غاري بيكير» وهو الحائز أيضاً جائزة نوبل لسنة 1992 إن العلوم الاقتصادية اعتمدت على العلاقات المثالية الثابتة المستقرة بين المواطنين والشركات والمؤشرات وهذا لا يمكن الدفاع عنه. لا أحد ينكر أهمية نظريات بيكير الإنسانية التي سمحت بتطوير الخدمات التي يحتاج إليها المواطن المعاصر.

لا شك في أن خبراء الاقتصاد فشلوا في توقع الأزمات في طبيعتها وتوقيتها وحجمها. اعتاد الاقتصاديون أن يدرسوا العلاقات الاقتصادية الشاملة وليس التفصيلية. المطلوب الاثنتان معاً إذ إن معالجة المشاكل المفصلة تختلف جداً عن معالجة المجموع، بل تضيف إليها في المحتوى والعمق. دراسة الناتج المحلي الإجمالي تختلف عن دراسة مئات العلاقات والأرقام التي تقيم ضمنه. لا نتكلم فقط عن سوء التنبؤ بالأزمات العالمية بل حتى عن الأزمات الإقليمية والمحلية. سوء التنبؤ بالأزمات ربما يضع العلوم الاقتصادية في قفص الاتهام حول جدواها ويضع الشك في أهلية خبراء الاقتصاد على التنبؤ والمعالجة.

هنالك أسباب عدة لفشل التنبؤ الاقتصادي أهمها أن تطور العلوم الاقتصادية اعتمد في العقود الأخيرة على التقدم التكنولوجي وعلى الرياضيات خاصة التي أصبحت أهم أداة في التحليل الاقتصادي. هذا أعطى العلوم الاقتصادية انطباعاً ممتازاً عند الرأي العام العالمي بحيث سميت دروس الاقتصاد بالدروس في «العلوم» الاقتصادية. الفارق مهم إذ سمح بدفع العديد من المتفوقين في العلوم الطبيعية إلى دراسة الاقتصاد. هذا التوجه نحو الرياضيات افترض في الوقت نفسه أن الإنسان جامد في تطلعاته وأفكاره تماماً كقطعة تكنولوجيا أو معادلة رياضيات. هذا لا يعبر عن حقيقة الإنسان وتطلعاته المتغيرة ونفسيته وشعوره مما يعقد التحليل.

* كاتب لبناني

 

 

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yafs9ppa

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"